أختر اللغة
الرئيسية | مقالات | تكهنات حول الإسكندر الكبير بقلم د. ايلي مخول
تكهنات حول الإسكندر الكبير بقلم د. ايلي مخول

تكهنات حول الإسكندر الكبير بقلم د. ايلي مخول

“إن شئت وصف حياة الملك الإسكندر … في هذا الكتاب، فما عليّ، نظرًا لكثرة الأعمال المتوفرة لديّ، إلاّ أن أعتذر من قرائي لعدم تمكني من  تناول جميع المفاخر بدقة وبالتفصيل، والإكتفاء بالتطرق إليها باختصار”.

بهذه الكلمات بدأ بلوتارك كتاب سيرة الإسكندر الكبير … غير أن اسم الإمبراطور مقرون بعَرافة آمون كما لا أحد، والعكس صحيح، إذ لم يرتبط عرّاف بإسمِ واحد مثل آمون مع الإسكندر. هذه هي الطريقة الوحيدة لفهم الزيارة الرائعة التي قام بها الإسكندر إلى واحة سيوه والنبوءة التي ظلت سراً حتى يومنا هذا، وقد تكون صنعت تاريخ العالم، على الرغم من أن شخصًا واحدًا فقط عرفها – وأخذها معه الى القبر. ويبدو من المؤكد اليوم أن رحلة الإسكندر الصغيرة إلى واحة سيوه في الصحراء الليبية التي لم تكن خالية من المخاطر- كلّفت القائد ستة أسابيع – لم يكن مخططًا لها، بل نشأت من وحي.

تتلمذ الإسكندر كصديق يوناني على يد الفيلسوف العظيم أرسطو من سن 13 عامًا، وكان جدّ متديّن، حيث أن حِكم العرّافين قد لعبت دورًا كبيرًا في حياته. بدأ ذلك منذ ولادته، لا بل قبل الحمل به. وتنبأوا بأنها ستلد صبيًا يتمتع بشجاعة الأسد.

لعلّ هذا كان السبب وراء قرار الإسكندر فيما بعد القيام بزيارة خاطفة إلى سيوه على الرغم من أن هدفه الإمبراطورية الفارسية الواقعة في الاتجاه المعاكس.

بعد اغتيال والده 355 قبل الميلاد، كان الإسكندر في العشرين من عمره عندما اعتلى العرش. وكانت أهدافه المعلنة الهيمنة داخل اليونان الممزقة سياسيًا وغزو الإمبراطورية الفارسية. ولأنه طفل محظوظ كونه صاحب القسمة والنصيب نزلت عليه النجاحات بكل معنى الكلمة.

قبل خوض الحرب ضد الفرس ذهب شخصيًا إلى دلفي طالبًا من أبولون (إله النور والفنون والجمال عند اليونان، إبن زفس وليتو. كان له معبد في دلفي اشتهر كمركز للتكهّن) أن يشجعه في قراره القتالي. لكن الإسكندر وصل في يوم لم يتنبأ فيه العرّاف؛ لذلك سأل بيثيا (الكاهنة الكبرى في المعبد) إذا كان باستطاعتها إصدار استثناء كونه في عجلة من أمره. إلاّ أن بيثيا رفضت طلب المقدوني لأن مواعيد العرّاف المحددة بمثابة قانون مقدّس. عندها اقتحم الإسكندر بيت العرّاف وسحب بيثيا بالقوة إلى المعبد. فصاحت من شدة الخوف “أنت لا تُقهر!”. لم يشأ الإسكندر سماع المزيد. فشكرها واستغنى عن سماع نبوءة من فمها.

إنه ردّ فعل نموذجي لسرعة الإنفعال الشبابية. يعيد إلى الأذهان حادثة أخرى على صلة أيضًا بعرّاف وقعت بعد ذلك بقليل. ومرة أخرى جعل الإسكندر من موضع فجأة مكانًا مشهورًا بالمعنى الحقيقي للكلمة.

العرّاف والعقدة الغوردية

كان ذلك في شتاء عام 334/3 قبل الميلاد. في الطريق إلى مصر غزا الإسكندر مدينة تلو أخرى في آسيا الصغرى، وأخيراً غوردية، عاصمة فريجيا القديمة ومقر إقامة الملك الأسطوري ميديا، حيث استحال كل شيء وقع في قبضته، ذهبًا بحسب الأسطورة. كان اسم والد ميديا غورديوس وأطلق على المدينة اسمه أيضًا. كان مزارعًا مستقيما وأصبح بحسب التقاليد، ملكًا من خلال العرّاف. قد تكون النبوءة صادرة عن ديديما، وربما عن كلاروس، إلاّ أنها أعطت إجابة على السؤال حول من يريد سكان فريجيا أن يكون ملكهم. وجاء فيها: “الشخص الذي رآه المستجوبون أولاً يركب عربة إلى معبد زيوس في رحلة عودتهم”.

أول من جاء كان غورديوس. فتوِّج ملكا على فريجيا. للإحتفال بذكرى هذا الحدث ترك العربة الملكية في معبد زيوس. هناك رآها الإسكندر الكبير. على أنها لم تكن هي التي أثارت اهتمامه بل كلمة العرّاف التي وعدت كل مَن يستطيع فك العقدة الضخمة من يد العربة يحكم آسيا. تلك العقدة كانت عبارة عن تشابك محيِّر للحاء الكرز يشد النير بالعريش أو بمِجَرّ العجلة. أمّا الصعوبة الرئيسة التي حالت دون تمكن أحد من فك العقدة في وقت سابق فكانت في عدم وجود لا بداية ولا نهاية للحبل ظاهرتين في العقدة.

فكّر الإسكندر في الورطة جيدا ولم يتردد، فاستلّ سيفه وقطع العقدة فجأة. في الليلة التالية اجتاحت غوردية عاصفة رعدية عنيفة إعتبرها الإسكندر موافقة من قبل زيوس (زَفْس)، ومنذ ذلك الحين عيّن نفسه “ملك آسيا”.

بعد الحادثة طلب الكلام رجل عجوز حكيم يدعى أريستوبولوس، سبق للإسكندر أن جنده خبيرًا تقنيا لحملته الآسيوية. لقد رأى أن فك العقدة كان أبسط بكثير لو قام الإسكندر فقط بإزالة الوتد الذي يحمل حزام النير من العريش وسحب بهذه الطريقة نير العربة. لكن هذا كان سيتطلب بعض الاعتبارات، ومن كان ليطلب ذلك من قائد الحرب!

سقطت مصر في أيدي المقدوني دون قتال، ورحب شعب النيل بالإسكندر كمحرر من العبودية الفارسية. وتوّجه كهنة العاصمة ممفيس فرعونا على مصر. في مطلع العام 331 قبل الميلاد إنحدر النيل عبر الدلتا وبالقرب من مدينة راقودة  وضع حجر الأساس لمدينة الإسكندرية التي بناها المهندس المعماري ديمقراطس من رودس وفقًا لتعليماته الدقيقة على لوحة الرسم.

خلال تلك الأيام إنتهى الإسكندر من إعداد خطته لزيارة عرّاف سيوه آمون في الصحراء الليبية. كان ذلك مشروعًا متهوّرا، ليس فقط بسبب مخاطر الطريق ولكن قبل كل شيء بسبب داريوس. فقد أعاد الملك الفارسي تنظيم جيشه وكان يتوق للتعويض عن الهزيمة في إسوس. في ذلك الوقت لم يكن أحد يعلم أين ستجري المعركة الحاسمة. هل كان ذلك فضولًا أم ثقة بالنفس أم أنه كان على دراية جيدة بأنشطة العدو: على أي حال، جاب الإسكندر الصحراء في رَويًّة على مدى ستة أسابيع.

وسلك الجيش الذي رافق قائد الحرب عبر مرسى مطروح طريق القوافل القديم  الذي لا يزال حتى اليوم سالكًا أمام العربات التي تسير في المناطق الوعرة. وكما هو الحال مع جميع مشاريعه، كان الحظ في هذه المرة أيضًا حليف المقدوني العظيم. وعندما نفد مخزون المياه من القوات، قيل إن أمطاراً غزيرة هطلت. فقام الجنود بالتقاط المياه بأغطية وتخزينها. وبعد أن غطّت عاصفة رملية معالم الطريق،  ظهرت غربان في السماء. فأمر الإسكندر بتعقبها، إذ افترض أن الطيور إنما تتجه نحو واحة. كان تخمينه صحيحًا، فبلغ وجماعته سيوه على أهنأ حال.

السرّ الذي أخذه معه الإسكندر إلى القبر

جاء الإسكندر على غير موعد، لكن من المؤكد أن الكشافة قد بلّغوا بالفعل عن حدث الألفية؛ فعندما وصل قائد الحرب إلى المعبد، “رحّب به رئيس كهنة آمون بإسم الإله” (بلوتارك، الإسكندر 27)*. إصطفت نساء وفتيات باللباس الأبيض وقدّمن الأناشيد والرقصات. وفي وسط طواف مهيب، جرت مواكبة الإسكندر عبر المعبد وملحقاته.

كان رجاله شهودًا عندما وجه الإسكندر السؤال إلى رئيس كهنة العَرّاف: “هل أفلت أحد من قتلة أبي من العقاب؟”

لفته الكاهن قائلاً: “وضّح فكرتك باحتراس أكبر؛ والدك لا يموت! “

أعاد الإسكندر صياغة سؤاله: “هل قدم الإله كل قتلة فيليبس إلى العدالة؟ »

فأجاب الكاهن: “نال فيليبس الرضى الكامل”.

أراد الإسكندر معرفة ما إذا كان الإله سيسمح له بأن يصبح سيدًا على جميع الشعوب.

أجابه رئيس الكهنة بأن ذلك قد أُعطي له.

هنا يقول بلوتارك أنه قدم هدايا رائعة للإله آمون، وأغرق السكان بالمال.

في الختام أُتيح لبعض مرافقي قائد الحرب إستشارة العرّاف. وعندما أراد أحدهم أن يعرف ما إذا كان ينبغي عليهم عبادة ملكهم كإله، أجاب آمون أنه يستحسن ذلك.

ليس معلوما كم من الوقت مكث الإسكندر في موقع العرّاف، لكن من المؤكد أنه زار الحرم بمفرده مرة أخرى. أمّا السؤال الذي طرحه والإجابة التي تلقاها فيبقيان سرًّا تاريخيا عظيما.

عندما خرج من صومعة العَراف، سأله مرافقوه عن النبوءة التي تلقاها. لكن الإسكندرإكتفى بالقول إنه سمع ما أراد سماعه.

في رسالة غامضة إلى أمّه أوليمبياس كتب أنه “تلقى بعض التكهنات السرية” (بلوتارك، الإسكندر، 27)، وسيبيحها لها وحدها بعد عودته. مهما يكن من أمر ما سمعه من تنبؤات، فقد أخذ السرّ معه إلى القبر. وتوفي الإسكندر في بابل عام 323،  ولم ير والدته مرة أخرى.

إذا كان عرّاف غوردية قد ثبّت إيمانه بأنه ملك آسيا، فإن نبوءة آمون عززت ثقته بأنه من أصل إلهي، واحتلت عبادة آمون موقعا كبيرا في حياته القصيرة. فقبل وفاته  أخبر الإسكندر صديقًا له أنه يريد أن يُدفن بالقرب من معبد آمون في سيوه. لكن أخلافه لم يحققوا رغبته.

أغلب الظن أن الخشية من أعمال النهب في الصحراء المعزولة من كل سلاح قد دفعت بقائد جيش الإسكندر بطليموس الأول ولاحقًا حاكم مصر، لبناء ضريح ضخم مع إنشاء مدينة الإسكندرية. بيد أن ذلك لم يوقف إقبال المؤمنين على الصحراء.

·       (“سيرة الإسكندر الكبير بقلم بلوتارك”. في الفصل 27 من هذا الكتاب وصف لرحلة الإسكندر وكيفية حصوله على مساعدة من السماء في مشاكله، والتي وجدت مصداقية أكثر من كل النبوءات التي تلقاها فيما بعد).

عن ucip_Admin