منذ عهد لويس الرابع عشر، والثقافة الفرنسية تتألق في أوروبا. في عصر التنوير، وحّد فولتير وروسو والموسوعيون المفكرين من حولهم، بينما أصبحت لغة موليير لغة الدبلوماسية.
تعمّقت الإنشقاقات في أوروبا في العصر الحديث بشكل خاص بعد نشوء المواجهة الدينية الكبرى بين الكاثوليك والبروتستانت، وبسبب قيام صراعات كبرى عديدة، لا سيما حرب الثلاثين سنة، وحروب لويس الرابع عشر، وختامًا، “الحروب الفرنسية” للثورة والإمبراطورية. ومع ذلك، ظلّت أوروبا الأفكار قائمة. ربما لم يكن لديها قطّ هذا القدر من التألق كما في القرن الثامن عشر، بالنظر الى التأثير الفرنسي.
هناك عدة أسباب لذلك، أولاً وقبل كل شيء الإرث. كانت أوروبا في العصور الوسطى تتمتع بوحدة ثقافية عميقة؛ وهكذا صنع توما الأكويني وجون دونس سكوت شهرة جامعة باريس. كل هذا أصبح ممكنا من خلال وجود لغة علمية مشتركة: اللاتينية، التي استمرت حتى القرن الثامن عشر، عندما حلّت محلها الفرنسية لبعض الوقت بالنسبة للنخبة. بالنظر للعالم الإسلامي، تظل المسيحية، ولو منقسمة، عامل وحدة، وذلك بخلاف هنود أميركا الجديدة أو سكان إفريقيا: هذا هو المعنى الرمزي لمعركة ليبانتو (معركة بحرية جرت في 7 تشرين أول 1571 في خليج باتراس على ساحل اليونان الغربي)، حيث انتصرت الرابطة المقدسة على العثمانيين. إن التبادلات بين العلماء والأدباء الأوروبيين إذًا عديدة وسهلة، كما تثبته، في النصف الأول من القرن السابع عشر، مراسلات الأب ميرسين، الذي كان في قلب شبكة علمية حقيقية أنشأها وحافظ عليها. من قبل، ذاع صيت إيرسموس (1466-1536، ولد في روتردام بهولندا وتوفي في بال بسويسرا. من مشاهير رجال الفكر في عصر النهضة. طرق أكثر المواضيع بتروِّ وصِدق. جال أوروبا في طلب الكتب القديمة. له طبعة العهد الجديد الأولى باليونانية مرفقة بترجمة لاتينية). أما بالنسبة للأفكار الجديدة، فقد انتشرت بسرعة كبيرة، يشهد على ذلك تأثير كوبرنيكوس أو تايكو برايي (الدانمارك)، أو سرعة الانتقادات التي وجهت إليهما.
في جميع المجالات، تنتشر خارج الحدود أفكار أو فنون البلدان الأكثر أهمية ثقافيًا لعصرها – إيطاليا أولاً، ولكن أيضًا إسبانيا وإنكلترا والدول الفلامندية. في هذا الصدد، فإن عصرالنهضة في إيطاليا لا يعني فقط تطور فنون جديدة، بل يفرض أيضًا طريقة جديدة لتصوير العالم والناس، إذًا نظرة أخرى، وأسلوب تفكير مختلف، يوحّد، إن لم يكن الإنتاج الفني، فعلى الأقل المناهج الفنية والفكرية. ومع ذلك، نحن هنا في مجال جدّ متغيّر: فالتأثيرات الإيطالية والإسبانية لم تتوقف عن التقاتل في فرنسا في النصف الأول من القرن السابع عشر، وإذا كان المسرح الفرنسي مدينًا بالكثير للمؤلفين من وراء جبال البيرينيه، فإن الفنون المسرحية هي إيطالية في مجملها تقريبًا، وبخاصة الكوميدية منها. ولكن، في الوقت نفسه، تألقت أعمال كورنيل، قبل أن تبلغ فرنسا مع موليير وراسين ذروة هذا الفن الأدبي، وأثّرت بدورها على سائر أوروبا.
صحيح أن الأنسنة (humanisme) قد طبعت بطابعها تدريجياً الحركة الفكرية والثقافية والفلسفية والفنية الأوروبية جميعًا، وأن اختراع الطباعة أتاح، منذ نهاية القرن الخامس عشر، انتشار الكتاب، لدرجة أنه أدّى الى تفوق كبير للقارة الأوروبية على سائرالعالم، وأعطى قوة مضاعفة للتبادل الفكري بين الدول المختلفة. ومنذ القرن السادس عشر تكتسب اللغات القومية أهمية لم تعرفها من قبل. فقد سجّل عصر النهضة في أوروبا أول عهد عظيم للتراجم. يضاف إلى ذلك أن المزيد من المؤلفات باتت تصدر باللغة الأم. فراح جاليليو ينشر جزءًا من أعماله باللغة الإيطالية. أما أوتافيانو مادجي، فأكد في عام 1566، في منشورات المدرسة الفرنسية في روما l’Ambassadeur، على أهمية اللغات الحيّة. نذكر أن اللغة الإيطالية كانت منتشرة على نطاق واسع، منذ بداية القرن السادس عشر إلى النصف الثاني من القرن السابع عشر، بينما راحت اللغة الفرنسية بعد منتصف القرن السادس عشر تحتل مكانة متزايدة في الدبلوماسية.
صاحب تطور اللغات القومية هذا ممارسات متعددة اللغات بين النخب الاجتماعية، وبخاصة الأمراء. فكان الإمبراطور ماكسيميليان يتكلّم بالفعل تسع لغات وكان لويس الرابع عشر يجيد الإيطالية. ولكن، خلال القرن السابع عشر، أخذت الوحدة التي أحدثها استخدام اللاتينية تتراجع وتتفكك، باستثناء الدوائر العلمية التي تم تقييدها في نهاية المطاف. من هنا تأتي أهمية صعود الفرنسية كلغة للتبادل والمعرفة منذ نهاية القرن السابع عشر. وأصبح دورها بعد ذلك عظيمًا، إلى درجة أن لويس ريو (مؤرخ للفن الفرنسي، ولد في بواتييه مطلع كانون ثاني 1881 وتوفي في باريس 1961. خريج المعهد الوطني للغات الشرقية الحيّة ومتخصص في اللغة والثقافة الروسية) قد رسم مع بعض المبالغة “أوروبا فرنسية لعصر التنوير”. فأضحت الفرنسية لغة الدبلوماسية، لغة المحاكم والصالونات الأدبية والفنية.
كما تعزز وسهل الإنتقال من بلد أو مجتمع أوروبي إلى آخر. ساهم في ذلك بقوة – رغم التباينات – الثقافة القديمة، دور اللاتينية ثم الفرنسية، تفسير مشترك للفنون. الموسيقى أيضًا: فقد أضيفت الموسيقى السمفونية إلى الأوبرا الإيطالية في القرن الثامن عشر. هِندِل إنتقل للعيش في لندن منذ عام 1711؛ أمّا موتسارت، الموسيقي المعجزة، فراح يجوب أوروبا …
يُعزى التأثير الفرنسي بدرجة كبيرة إلى تألق عهد لويس الرابع عشر. وفي أوروبا حيث كانت تهيمن المجتمعات الأميرية، إرتدت نجاحات الملك لويس الرابع عشر ومملكته أهمية كبرى – حتى عندما كانوا يحاربونها. لقد فرضت اللغة الفرنسية والنموذج الفرنسي نفسيهما أولاً من خلال مجتمعات البلاط ، وذلك دون أن يكون ثقلهما حصريا كما يتبين من قوة التأثير الإيطالي والإنكليزي في روسيا، أو تأثير الأسلوب الباروكي الإيبيري (الإسباني أو االبرتغالي)، الإيطالي أو الجرماني في التعبير الفني. كذلك يقوم التفوق الفرنسي على العصر الذهبي الذي بلغه في حينه الأدب والأفكار في فرنسا. لم تكن أوروبا التنوير فرنسية فقط، لكن الأدباء الفرنسيين تمتعوا بتأثير استثنائي. إنطلاقًا من مونتسكيو وروسو وخاصة “الملك فولتير”، ومن الصالونات الأدبية الباريسية الرئيسة وأعمال ديدرو والترحيب الذي لقيته الموسوعة (القاموس الشامل للفنون والعلوم)، تقدم أوروبا وحدة ثقافية جديرة بالملاحظة، حتى لو كان التنوير الجرماني أو الإنجليزي مختلفًا تمامًا، والجذور الرئيسية للرومانسية ليست متأصلة في فرنسا. وكما يشير التعايش بين هذه الأسبقية الفرنسية وحيوية الدول النامية بسرعة، فإن أوروبا الأفكار والثقافة تقوم أيضًا على تنوع المراكز التأسيسية، والتي تمكن بعضها فقط (في فرنسا وإيطاليا وإنكلترا في ذلك الزمن) من بلوغ مواقع سائدة.
تلك هي أصالة المجال الذي يستغرقنا: في السياسة كما في الدين، يشكّل التنوع والإعتراضات القاعدة. فبينما كانت البابوية في العصور الوسطى – رغم واقعة إقامتها في أفينيون – عنصر وحدة معترف بها من الجميع، وبعد عظة لوتر ونجاح أفكاره، شهدت بداية القرن السادس عشر اختفاء آخر عناصر التوحيد. أما بالنسبة لادّعاءات الهيمنة من قبل أسرة هابسبورغ، فإن فشله قد وضع حداً لحلم بإمبراطورية أوروبية. وفي إيطاليا أو في الإمبراطورية، ذهب الإنقسام أبعد من ذلك بكثير: وهكذا شكلت الكيانات الألمانية فسيفساء حقيقية من دول ذات أحجام وخصائص شديدة التنوّع.
في هذا السياق تعتبر عناصر الوحدة الفكرية والثقافية، أكثر جوهرية. أمّا تقسيم أوروبا إلى دول، وتنوع وحيوية المراكز الوطنية فهي في الواقع شيء آخر. في كثير من الأحيان، يبحث المؤرخون عن أصول توسعها وديناميّتها وعدوانيتها على نطاق عالمي. من الصعب إثبات ذلك، لكن البحث عن عنصر شامل للتفسير يظل أمرًا مشروعًا.
في الواقع، طول العصور الحديثة، يتم تعريف مختلف شعوب أو رعايا دولة ما، أولاً من خلال انتمائهم اليها، والجنسية التي يحملون. لكن هذا لا يمنعهم من الاستقرار بسهولة في أي مكان آخر، مثل عشرات الآلاف من الفرنسيين، الذين غادروا أوفيرني أو ليموزين أو منطقة البيرينيه وهاجروا مؤقتًا إلى إسبانيا؛ أمثال أولئك الجنود أو الضباط الذين قاتلوا من أجل أمير ليسوا من رعاياه وشغلوا، في حالات كثيرة، مناصب أساسية، مثل الأمير أُوجين أو موريس دي ساكس – حتى أنهم قادوا أحيانًا مملكة أجنبية، على غِرار مازارين. ذلك أن الأوروبيين يتمتعون بشعور عميق بانتمائهم المشترك، شعور يتجلّى أكثر خارج أوروبا، حتى لو لم يستبعد ذلك الصراعات القاسية والدموية على السيادة بينهم.