في قلب المشهد المتأزّم وعلى أبواب بداية زمن الصوم المسيحي، لا بدّ من العودة الى الجذور، ليس لتذكّر الماضي والعيش في أحداثه، والبكاء على الأطلال، بل لأخذ العِبر واستمداد القوّة من شعب عانى أقسى أيام الإضطهاد والصعاب، ذاق الفقر، قاوم الطبيعة وصمد متحصّناً في الجبال الوعرة التي هزمت الغزاة ولم تصلها إلّا النسور.تلك هي رحلةُ شعب إختار للحرّية عنواناً، حتّى أطلق على بلداته أسماءَ مستوحاة من المقاومة والصمود. شعب أبى إلّا السكن في جبال تنورين شمالي لبنان، متسلّحاً بإيمان قلّ نظيرُه، متحدّياً الصعاب بالإتحاد مع الرهبان والكهنة، شعب يتناقل أخباراً وأحاديث عن رهبان كانوا يبقون من دون طعام أياماً لكي يُطعموا شعبهم الجائع، وما أكثر هذه القصص أيام المجاعة الكبرى والحرب العالمية الأولى، والتي أضاء على قسم منها الخوري يوحنا مراد في كتابه «تنورين أعلام ومعالم كنسيّة».
رواية «حريصا» الحقيقية
يستطيع الإنسان أن يجتاز سهولاً واسعة بوقت قصير، نظراً لسهولة الطرق، ولكنّ إجتياز تنورين بمساحتها الجغرافية المترامية وفي ظلّ التطوّر الميكانيكي وثورة السيارات يُعتبر مهمّةً شاقة حالياً، فكيف الحال في القِدم؟ لم تكن هناك وسائل نقل، ولا «شوفاجات» للتدفئة، ولا مراكز طبّية، فكيف عاش شعبنا تلك الأيام والحقبات، وهو الآن يهجر بلدته الى الساحل، وقد لا يقضي حتى عطلة نهاية الأسبوع فيها نظراً لبُعدها وصعوبة طرقاتها؟
قد يكون الشعب الماروني الأوّل الذي سكن تنورين متجذّراً بأرضه، لكنّ الإيمان وعيش الحرّية دفعاه الى تلك الأرض، فتنورين تتوسّط جبّتي المنيطرة التي دخلها المبشّرون الأوائل مع تلميذ مار مارون الراهب إبراهيم القورشي، وجبّة بشرّي التي سكنها الموارنة لكي لا يصلهم الغزاة.
وقد ذاع صيت هاتين الجبّتين نظراً لأنّ القيادة، أي البطريركية المارونية تمركزت فيهما، في يانوح وقنوبين، لكنّ تنورين تحتفظ بمعالم دينية، ومنها أيضاً إنطلق الموارنة نحو لبنان والعالم، في وقت يتمّ التركيز على بقع مارونيّة أخرى.
هل هناك أهمّ من مزار سيدة حريصا على تلال جونية، فهذا المزار أتى من منطقة حريصا في بلدة تنورين، الواقعة قرب غابة الأرز، ويطلق عليها اسم الحرّية والحرايص أي الحرّاس الذين يحرسون المنطقة ويحرصون على سكانها، وحسب ما يروي مراد في كتابه «شنّ آل حمادة في إحدى ليالي التهيئة لعيد انتقال العذراء، حملةً على حريصا وطوّقوا الكنيسة وأشعلوا النار فيها وقتلوا مَن قتلوا ومَن نجا هرب، منهم شخص من آل يونس، نزح باتجاه بلدة درعون في نواحي كسروان، وحمل معه صورة العذراء، وبنى لها مزاراً قرب بيته، وأطلق عليه اسم مزار سيدة حريصا.
فيما بعد حمل هذا الحيّ من بلدة درعون إسم حريصا حيث تمّ تشييد معبد سيدة لبنان سنة 1905». (ص. 474).
ومن حريصا التنّورية حتّى عين الراحة يمتدّ وادٍ مقدّس يشبه وادي قنوبين سكنه الموارنة الأوائل خوفاً من الاضطهاد.
بين رَهْن الحجر ورَهْن البشر
إختار الخوري يوحنّا مراد العودة الى الجذور والإضاءة على تاريخ تنورين وأنها أرضُ القداسة، فاختار «تنورين أعلام ومعالم كنَسيّة» عنواناً لكتابه الذي سيوقّع يوم الثلثاء المقبل في جامعة سيدة اللويزة، حيث يشرح لـ«الجمهورية» ارتباط البلدة بالمارونية وما قام به الرهبان والكهنة من أعمال ساهمت في نهضة المجتمع.
ويتحدّث مراد في كتابه عن الكهنة والرهبان في تنورين منذ القرن الخامس عشر تقريباً، حيث هناك «86 خوري أبرشي»، إضافة الى أنه تمّ إحصاء 119 راهباً في الرهبانية اللبنانية المارونية منهم 54 كاهناً، و64 راهباً أخاً، و3 في الرهبانية المريمية أبرزهم الأباتي بطرس طربيه الذي يشغل حالياً منصبَ رئيس الرهبنة المريمية.
وقد أرفدت تنورين الرهبنة بـ5 رؤساء عامين، (3 المارونية اللبنانية، 1 المرسلين، 1 المريميين) إضافة الى رئيسة عامة لرهبنة القربان المرسليات. كذلك، يتحدّث الكتاب عن الراهبات اللواتي توزّعن ويتوزّعن حالياً في كلّ الرهبانيات. علماً أنه لم يتمّ انتخاب بطريرك من تنورين بعد، فيما عدد المطارنة ضئيلٌ جداً.
ويعطي الخوري مراد في كتابه حيّزاً مهماً للنسّاخ الذي بلغ عددهم 10، وكانوا ينسخون الكتب، إضافة الى دور رجال الدين في تعليم أهالي البلدة وتأسيس المدارس، وينشر صوراً عن التعليم الأول الذي كان يحصل تحت الشجرة، إضافة الى مطاحن تراثية.
ويشرح مراد عن المعالم الدينية القديمة في تنورين ويبلغ عددها 57 معلماً، ويحرص على نشر صور لهم، ولعلّ أبرزها: دير مار شليطا في ساحة تنورين الفوقا، مار انطونيوس تنورين التحتا، دير سيدة العفصة حوب، دير مار مخايل، مار جرجس والسيدة عين الراحة، سيدة حريصا، سيدة زويلة اللقلوق وفيها آثار أرامية، دير ما ضومط ومار سركيس.
ويضيء الكتاب على دور الرهبان وقد اختار على الغلاف وضع صورتَي الأباتي اغناطيوس داغر التنوري الذي كان رئيساً للرهبانية اللبنانية المارونية عام 1913 في أحلك مرحلة تمرّ على جبل لبنان حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى بعد عام وضربت المجاعة والجراد لبنان فرهن أملاك الرهبنة لفرنسا لإعانة الفقراء، في عمل نفتقد اليه هذه الأيام، اضافة الى الأب الناسك أنطونيوس طربيه الذي توفي عام 1998 والذي يسير على طريق القداسة. علماً أنّ دعوى تكريم طربيه والتنوري موجودة في روما.
العبرة في سرد ذاك التاريخ ليست فقط العدد الكبير من رجال الدين في تنورين بل في أعمالهم، في حين أنّ معظم القادة إن كانوا روحيين أو حتى سياسيين يفتقدون الى الروحية التي عمل بها الأجداد، لذلك نرى أنّ غالبية أهل تنورين هُجِّروا من أرضهم بفعل غياب الإنماء والخطط المستقبَلية، ولم ينتظروا «داعش» أو غيرها لتقتلعهم من أرضهم التي دفعوا دماً للبقاء فيها.
آلان سركيس
الجمهورية