د.ايلي مخول
صدر عن دار غراسيه للنشر في 13 آذار 2019 كتاب Le Naufrage des Civilisations للأكاديمي والكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف يعبّر فيه عن تجربة جدّ شخصية يؤدّي فيها تارة دور المتفرّج الملتزم، وتارة أخرى دور المؤرّخ. وهو، إذ يعيد رسم قصّته الخاصة، من القاهرة إلى باريس مرورًا ببيروت وطهران وسايغون (سابقًا)، يحلّل الأزمة المأساوية التي تمرّ بها حضاراتنا.
هذا العمل الذي يعطي في آن صورة قاتمة تحمل في طيّاتها نوعًا من الأمل، ورفضًا للقضاء والقدر الذي لا نستطيع تجنبه، جاء وليد قلق كبير أصاب المؤلف. يتجلّى في سقوط حضارته أوّلاً التي يحبّ أن يسمّيها مشرقيّة. ثم حضارة العالم العربي العزيزة جداً على قلبه. وتاليًا الحلم الأوروبي أيضًا، الذي عاشه عندما وصل إلى فرنسا قبل 40 عامًا واعتبره المشروع الأكثر وعدًا. أخيرًا إذا نظرنا إلى الولايات المتحدة، حيث نشهد شكلاً منفلتًا من الغَمارة (الجهل وعدم الخبرة)، نرى من زاوية الكاتب أنها تفقد كل مصداقيتها الأخلاقية، رغم كونها القوّة العظمى الوحيدة حتى اليوم. وأن أوروبا تتفكك، هي التي عرضت على شعوبها، وكذلك على سائر البشرية، أكثر المشاريع طموحًا وتحفّزًا في عصرنا. كما ان العالم العربي والإسلامي غائص في أزمة عميقة تغرق شعوبه في اليأس، ويخلّف عواقب وخيمة على الكوكب بأسره. ثمّة دول كبرى “ناشئة” أو “منبعثة من جديد”، مثل الصين أو الهند أو روسيا اقتحمت الساحة العالمية في جوّ قاتل يسود فيه شعار كلّ على حدة وحكم القوي على الضعيف. ونشهد سباق تسلّح جديد يبدو محتَّمًا. ناهيك عن التهديدات الخطيرة (المناخ ، البيئة ، الصحة) التي تثقل بكاهلها على الكرة الأرضية والتي لا يمكن مواجهتها إلا من خلال تضامن عالمي لا وجود له على الإطلاق.
منذ أكثر من نصف قرن وأمين معلوف يراقب العالم ويجُوبه. كان في سايغون مع انتهاء حرب فيتنام، وفي طهران عند ظهور الجمهورية الإسلامية. في هذا الكتاب المؤثّر والمسهَب، يتصرّف كمشاهد ملتزم ومفكّر، يمزج بين الروايات والأفكار، ويروي أحيانًا أحداثًا جليلة كان فيها أحد شهود العيان القلائل، ثم يرقى كمؤرّخ فوق تجربته الخاصة كي يشرح لنا تلك الانحرافات المتعاقبة التي مرّت بها البشرية لتجد نفسها على وشك الغرق.
مع ذلك ليس هدف المؤلف رسم صورة متشائمة للعالم الحالي وحضاراته. وبرأيه أن هذه الكوارث المبرمجة يمكن تجنبها. فيدعونا إلى أن نفهم لماذا وصلنا إلى هناك، والنظر الى ما حدث وما كان يمكن تجنبه في منطقة المشرق وفي الغرب.
على وجه التحديد، يشير الكتاب إلى حقيقة أن المجتمعات لم تنجح في وضع المصلحة الوطنية التي هي أساس الدولة وبناء أمّة فوق مصالحها الخاصة. كما يسلط الضوء على المؤثّرات التي تقوّض اليوم كل محاولة لتحقيق التوازن أو التفاهم. وما يخشاه هو التشدد المتطرف الذي يهدّد كل حضارة بمفردها.
إلاّ أن الكاتب يميّز ويذكّر بأنه ليس أمرًا حتميًّا أن تتطور المجتمعات دائمًا في اتجاه التطرف والظلاميّة. وبرأيه أنه ينبغي التحلّي بالأمل، والبحث عن حلول والسعي الى المصالحة. وأن هناك سببًا بسيطًا للأمل. إذ اننا نعيش اليوم في العصر الأكثر ابتكارا وارتقاء في التاريخ، وبفضل الاكتشافات العلمية والتكنولوجية والتقدّم في تحريرالعقول، لدينا الإمكانية لحلّ مشاكلنا. لذا من واجب الجميع أن يدركوا مسؤولتهم ويظلوا مِقدامين.
في نهاية كتابه يشيد المؤلف بجورج أورويل، الذي أعجب به بسبب وضوحه الاستثنائي. فقد قدّر له أن يتوقّع بأننا سنكون يومًا ما خاضعين للمراقبة في كل زمان وفي كل مكان. وبالفعل يجري اليوم ترصّدُ أعمالنا وخطواتنا باستمرار إنما بموافقتنا. ما من أحد يسرق معلوماتنا الخاصة، بل نحن من يعطيها. نحن نرضخ لأننا نعيش في عالم نشعر فيه بأننا مهدّدين، وعلى الأرجح اننا على صواب.
يبدو أن الكاتب أمين معلوف يتمنع اليوم، كما في العام 1984، ببصيرة تجعل تحليلاته أشبه بالتنبؤات. هكذا رأى صعود هويات قاتلة Identités meurtrières واضطراب العالم Le dérèglement du Monde. واليوم يشعر بالقلق إزاء تهافت الحضارات Le Naufrage des Civilisations، لكنه لا يزال مقتنعا بأن الإنتفاض يبقى ممكنًا. وإذا تغيرت العقليات سنكون قادرين على إعادة التفكير في العالم على أساس قضايا جديدة.
دليل استخدام الحضارات التي لا تريد أن تختفي بالسرعة نفسها ، “تهافت الحضارات” هو حافز للتعامل بعناية مع كل شيء يدخل في نطاق الهوية.
أكثر من أي وقت مضى، من الضروري بناء روابط قوية بين الناس من أجل تنمية الشعور بالانتماء إلى أمة.
يحب أمين معلوف أن يحلم بمجتمع يعيش فيه الجميع دون تمييز، وفي الوقت نفسه يعتبرون جيرانهم مختلفين عن مواطنيهم. ولبلوغ هذا الهدف يذكّرنا بأننا، رغم كل خصوصياتنا، بأننا يمكن أن نكون مواطنين في كل زمان ومكان.
“إضطراب العالم“، فيه يبحث أمين معلوف عن وسطاء في عالَم متقلّب، ويراهن على السكان المهاجرين لتأمين الصلة بين الشرق والغرب فيقترح عليهم أن يلعبوا دورًا أساسيًا في عالم اليوم: دور الوسيط بين الثقافات. هو نفسه الذي أمضى العقود الأولى من حياته في لبنان قبل أن يستقر في فرنسا، يجسد تماما شخصية ذاك المهرّب للأشخاص، العالِم بالداخل ومع ذلك يرى من الخارج الغرب والشرق (الأوسط) على السواء. في استمرارية الهويات القاتلة (Grasset ، 1998)، يواصل بحثه عن العالَم المعاصر بأسلوبه المباشر والشخصي، مخاطبًا القارئ العام بدلاً من المتخصصين.
أن تثبيت الحقائق الذي يصوغه يمكن أن يشكّل ألأساس للمناقشة الدائرة حاليًّا. فيذكّرنا، خلافًا لكل حكم مسبق، بأن السياسة في العالم الإسلامي تستخدم الدين وسيلة لأهدافها. ويُثبت أن الشعور بالإذلال هو الذي يزيد الحقد لدى سكان تلك البلدان وكذلك شتاتها في الغرب؛ وأنها تطمح قبل كل شيء إلى الحصول على مزيد من الاعتراف والكرامة. على الجانب الغربي، ليست المشكلة في القيم المعلنة، ولكن في أنها نادراً ما تطبَّق في العلاقات مع الآخرين، تلك القيم التي تُنّخَذ قناعًا للبحث عن القوة والثروة.
“تجاوز الحضارات”
حالتان توضحان هذا الخطر. يتم انتخاب قادة الولايات المتحدة من قبل الأميركيين وحدهم، لكن قراراتهم تؤثرعلى مصير العالم بأسره. فلكي يكون الموقف مقبولاً، يجب أن يُنظر إلى القادة المعنيين على أنهم حاملو معيار أخلاقي مترفّع؛ لكن الأمر أبعد من أن يكون كذلك (على الأقل حتى انتخاب أوباما)، وبالتالي فإن هذه السلطة تُعتبر بمثابة غَصب. يواجه قادة الدول العربية خيارًا مستحيلًا: إذا عارضوا الغرب، فقدوا شرعيتهم الدولية، وإذا ارتضَوا، فقدوا الشرعية التي تأتيهم من شعوبهم ( في هذا السياق، يرسم أمين معلوف صورة دقيقة لعبد الناصر).
بالمقابل لا يزال اضطراب العالم نداء مرحّبًا به لمراعاة التغير السريع في العالم المعاصر والمخاطر التي يستتبعها. عالم قد نشحّ فيه الموارد الأساسية، إذا اعتمد سكان الأرض معايير الاستهلاك الغربية؛ وحيث سيتدهور المناخ بشكل لا رجعة فيه إذا لم نغير أسلوب حياتنا.
الأخطار كونية، والاستجابة يجب أن تكون كذلك. يقول أمين معلوف: “لم يعد ثمّة غرباء في هذا القرن، فليس هناك سوى رفاق درب”. الأمر متروك لنا، ويجب علينا أن نقوم بذلك الآن.