مع انتشار مشاهد قتل وتهجير المسيحيين والأقليات في العراق على يد داعش، يستعيد سريان لبنان مذابح “سيفو” في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي أدت إلى هجرتهم آنذاك قبل أن يعودوا وينموا مجدداً متسائلين من الذي سينقذ الوجود المسيحي في آخر بقعة كان يمكن أن تكون ملاذاً آمناً لمسيحيي العراق كف اليد، ورحلوا في العراء. بعض السكان لم يفلحوا بالهرب، أو لم يريدوا ذلك، فقضوا، وتواردت أنباء عن مقتل المئات. صورة أعادت الذاكرة إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. بين عامي ٨٩٠ و١٩١٥ حيث ارتكتب مجازر شهيرة عرفت باسم “سيفو”. مئات آلاف القتلى كانوا ضحايا المجازر التي ارتكبها الولاة العثمانيون والأكراد بالمسيحيين من سريان وأشور وكلدان وأرمن، بحسب العديد من الرواة. صورة مرعبة لم تغب عن أذهان أصحاب العلاقة، وعمن عرف بها. كانت وطأتها ثقيلة طوال قرن وأكثر من الزمن لشدة ما اختزنته من رعب. مئات البلدات فرغت من سكانها، فيما بقي الحجر واقفاً بصمت ينطق بحقيقة تاريخية مرة، غامضة في بعض من جوانبها.
في هذه الفترة العصيبة من تاريخ العراق، يتابع رئيس الرابطة السريانية حبيب أفرام بقلق مسار الأمور في مسقط رأس أجداده. يحاول رفض ما تسمعه آذانه عبر وسائل الاتصال. لا يعقل أن تتكرر المجزرة عينها في القرن الواحد والعشرين، لا يمكن له أن يتقبل أن ترتسم في ذهنه مجدداً صورة المجازر التي رواها له أهله.
رعب قد لا يتحمله عقل بشري إذا ما تابع الإنسان الروايات التي سردها أحد الكتب القليلة التي وثقت المجزرة بعنوان “الدم المسفوك”، كتبه واحد ممن عايش مجازر مطلع القرن العشرين. عبد المسيح قره باشي. أما ترجمته إلى العربية فقام بها راعي أبرشية جبل لبنان للسريان الأرثوذكس المطران جورج صليبا الذي قال “بعد تلك المجازر عادت العائلات ونمت بمن بقي، وتكاثرنا من جديد خلال مائة سنة، وعند احتلال أميركا للعراق كنا أكثر من مليونين، وكنا في سوريا أكثر من مليون ونصف المليون، والآن، لا نعرف، فليس هناك من أرقام”، مضيفاً أن “الغالبية العظمى ممن أنقذوا من الموت، هاجرت إلى أوروبا، خصوصاً إلى السويد حيث توجد جالية سريانية كبيرة”. لكن النبات المتجدد في قرن، تهدده “الدولة الإسلامية” (داعش) في أيام. عاد الدم المسفوك ليطل من جديد على أيدي “داعش”، وكذلك التهجير والهروب، والمنطقة تصرخ طالبة النجدة، والعالم في صمت مريب.
“الأمر انتهى، ولا أعرف ما يمكن أن ينقذ البقية” يعلن المطران صليبا. يقول “بعد ٢٠٠٣، وفي ظل الوجود الأميركي والفرنسي بدأ تهجيرنا وأعتقد أن ذلك ما تريده إسرائيل، ولسوء الحظ إن أميركا وأوروبا والعالم الغربي خاضعون لإرادة اسرائيل”. بدوره يعلن افرام اليوم “وفاة سهل نينوى” يقول “لأول مرة في التاريخ ينتهي الحضور المسيحي من آخر بقعة كان يمكن أن تكون ملاذاً آمناً لمسيحيي العراق”. يضيف أنه “مضى أسبوعان ونحن ندق ناقوس الخطر ونطالب بحماية دولية. ناشدنا أنه ما بعد الموصل، يمكن أن يصلوا إلى سهل نينوى، لكن لا أحد يسمع، ويرد، لا الدولة العراقية، ولا الأكراد الذين لم يدافعوا عنها كما يجب، وطبعا المسيحيون ليس لديهم وسائل الدفاع أمام جيوش جرارة ومدربة، فكيف يمكن لأناس بسطاء أن يوقفوه، والدول العربية في صمت أهل الكهف، غارقون في فراغهم، وفي تواطئهم وسكوتهم المذل، والغرب الخبيث بلا عقل ولا قلب ولا إرادة ولا رؤيا ولا بصيرة”.
بالنسبة إليه “وصمة عار العراق اليوم على جبين كل عراقي وعربي ومسلم، وعلى كل واحدة من القوى الدولية القادرة على فعل شيء، ولم تفعل” قائلاً إن “المسيحيين يدفعون ثمن وجود تكفيريين إلغائيين، ولم يرتكبوا أي خطأ في السياسة. المسيحي والإيزيدي لم يفعلا شيئاً”. قلما يهم افرام من يدعم هؤلاء لكنه يؤكد “أن كل واحد لا يهاجم هؤلاء، ولا يكون جزءاً من معركة ضدهم، هو ضد الإنسانية. إذا لم يكن هناك أوسع تحالف دولي لاستئصال هؤلاء فنحن أمام إبادات كثيرة آتية”.
“الدم المسفوك”
يلفت المطران صليبا في تعليق على غلاف الكتاب إلى أن “المسيحيين -ضحية هذه المذابح -راحوا نتيجة صراعات ومصالح الأمم الطامعة والمتصارعة: الألمان والفرنسيين والانكليز وسلطنة بني عثمان”. ويعرض الكتاب لائحة بجزء من قرى السريان، وسكانها، وعدد ضحايا المجازر في بلاد ما بين النهرين خلال الحرب العالمية الأولى، دون إيراد الأعداد السابقة للحرب. يخلص الكتاب إلى وجود ٣٤٥ قرية وبلدة، ضمت ١٣٣٥٠ عائلة، و١٥٦ ديراً وكنيسة، و١٥٤ رجل دين. أما أعداد الضحايا التي وقعت في المجازر، في هذه الفترة، فبلغت ٩٠٣١٣ شخصاً. لكن الإحصائيات لا تتناول كل مناطق التواجد المسيحي الذي طالته المجازر، وأعمال التهجير الشاملة أيضاً.