عمل التدبير الكنسي كالخيط المحكم يجمع الحزمة الروحية ويدبرها… عملاً مسكوبًا موهوبًا إلهيًا، ليكون إدارة الله وعمله فينا، بالسهر على مواهبه وحفظها؛ لأن التقديس والتدبير لا يأتي من التقليد؛ لكن من عمل الروح القدس في المدبر.
وجميعنا يعلم أن إحراز الانتصارات إنما يكون بإيمان القائد أكثر من شجاعة الجنود، فإبراهيم دخل المعركة ومعه ٣١٨ رجلاً واسترد الغنائم من الأعداء الكثيرين؛ وبقوة تلك العلامة التي كانت إشارة إلى صليب مخلصنا واسمه (T I H) قهر قوة خمسه ملوك مع جيوشهم ونال النصرة وفدى ابن أخيه لوط… وبالمثل فإن يشوع انتصر بصوت سبعة أبواق مقدسة وبمعونة ميخائيل رئيس جند السماء، هكذا كل مدبر حقيقي يحمل روحًا رئاسيًا للتدبير .
لا تدبير بدون المدركات الإلهية : التي بها نُعطىَ عينًا مقابل عينٍ ، وأُذُنًا مقابل أُذُنٍ، ورأسًا مقابل رأسٍ، فلا تدبير إلا بإقتناء امتيازات حكمة أبي الأنوار؛ التي تجعل المدبر كله نورًا وعينًا… كذلك لا تدبير ناجح من غير محبة وتقوَى إنجيلية متسعة، وعكس ذلك ليس في مجال خدمه المسيح؛ لأن منطق العالم أو ما يسمى “بالدَهْرَنَة” تقترن فيه الأولية بالسلطة والسطوة والقوة. لذا يعتمد البطش والقهر والدس أسلوبًا، أما منطق كنيسة المسيح هو تواضع القلب والدعة وحمل نير راحة النفوس بكل إتفاق روح… فكل أساليب العالم الدهرية بما فيها من ذات ومراوغة تعطل الخدمة وتبطل ماهيتها؛ لأن الأول في الخدمة هو الخادم الذﻱ على مثال العبد المتألم والفقير الأبدﻱ، الأول هو في بذله، في محبته، في تجرده، في أن لا تكون نفسه ثمينة عنده؛ إذ لا مجال في الخدمة للإستئساد والتسلط على الأنصبة ولا للإكتناز وتخمة المقتنيات .
كل مظاهر وشكليات تُحدث تباعدًا أو فجوةً بين الفكر الكتابي والأساس الليتورچي وبين الواقع الكنسي، لا بُد من التوبة والإقلاع عنها فورًا وبالمطلق؛ لأن الروح المجمعية والشركة واحترام المواهب وتكميلها يصبّ في خانة الكمال المسيحي، مع عدم الاستغناء عن موهبة ما.
لهذا تحرص الكنيسة في تسبحة باكر النهار أن نرتل معًا “ها ما هو الحسن وما هو الحُلو إلا إتفاق إخوة ساكنين معًا… متفقين متحدين بمحبة مسيحية إنجيلية رسولية كمثل الرسل” عندها تلتئم الكنيسة لعمل الخلاص غير مستغنية عن أحد .
إن الصراحة والإنفتاح لا تجعل القشور متربعة في المركز بدلاً من الجوهر المطلوب. لذلك غياب التواضع الإنجيلي، يلغي الحوار ويهمش المشورة ويشرخ الجسد، الأمر الذﻱ يحجب خيرًا وصيدًا كثيرًا، ويقف حائلاً أمام إلتقاط المواهب واكتشافها وتوظيفها وملاحظتها .
وما أصعب غياب الإحساس الكنسي بإكتشاف وتطوير المواهب والطاقات المتجددة، الأمر الذﻱ يتسبب في إهدارها أو انحرافها أو وأدها… فعلى عاتق الآباء والمرشدين الكبار في الكنيسة تقع مسئولية الاعتراف بالمواهب وتوزيع الأدوار وتجديد الطاقات وانتقائها بعناية، وعدم تجاهلها عمليًا سواء بقصد أو بغير؛ لأن ذلك يصد التيار العام لديناميكية الكنيسة، وبه ننكر عمل الروح القدس فيما بيننا، عندما نختزل المواهب ولا نثق بها .
كذلك تدبير هذه الطاقات والمواهب؛ يحتاج إلى تجهيزها وتأهيلها؛ لأننا لازلنا على عتبات سلم التدريب الكلاسيكي؛ ولازلنا نعتمد لغة خشبية في مواجه عالم نقديّ لا يرحم.
والبداية تبدأ من رصد الطاقات الفكرية والتدريبية في الكنيسة؛ ووضعها في مشروع بلورة وحضور واعد؛ يمكن أن يحقق نقلة نوعية في خدمة كنيستنا المعاصرة؛ لتكون محركًا أساسيًا في بلورة التوجهات الخلقية “Ethique” المستقبلية؛ لأنها مسئولة عن خدمة إنارة وقيادة العالم، ومن ثم ينبغي أن تكون ورشة عمل مفتوحة وخلية نحل لفرز عسل الخدمة والكرازة بالبشارة المفرحة… وتتميم رسالتها مع كل ذخيرة الكنيسة من صفوفها العاملة؛ وفق جدول عمل يبني الكنيسة ويبقيها ويديمها نامية من جيل إلى جيل بمواهب الله التي تعين الوظائف الكنسية في الخدمة والتعليم والوعظ ورعاية النفوس لأجل تكميل القديسين وعمل خدمة بنيان الكنيسة .
حضور مسيحنا في خدمتنا وتدابيرنا؛ لا يأتي إلا بالصلاة الدائمة والإنسكاب على كلمه الإنجيل والتلمذة، فتصبح أعمالنا بالله معمولة؛ لا وليدة ظروف وأحداث ونفسنة، بل مقودة بالروح وملهمة بمعونة فائقة وعلم كلي Omniscience، علم يرى ويفحص كل الدهور وما وراءها.
وقد سبق المسيح وعلمنا التدبير وكيف أنه يتأسس بغسل الأرجل؛ عندما غسل أرجل تلاميذه ليؤهلهم كي يعملوا ويعلموا فينالوا الطوبىَ؛ لأن العبد ليس أعظم من سيده ولا الرسول أعظم من مُرسِلِهِ، وقد جعل هذا طقسًا لكل الخدام والكهنة بكل رتبهم؛ حتى لا يتعظم أحد؛ بل يتدبر .
أخيرًا إن ضبط الخدمة وتصحيحها وإتقانها هو تكميلها؛ الذﻱ يتم فقط بالإصلاح والتصليح والتدقيق وتكميل ما هو ناقص في كل عمل صالح، كي يكون البنيان منسجمًا في وحدة الإيمان والمعرفة؛ لبلوغ الهدف بالاتفاق الكلي في القول والنظر والفكر والعمل، لأننا سُقينا روحًا واحدًا، لو صَدَقَتْ محبتنا؛ لَنَمِينا جميعًا وتوسعت تخومنا لمجد الثالوث القدوس.