يذهب مَن يرغب في استقالة المسيحيّين من الانشغال بشؤون الوطن والناس إلى الإنجيل باحثاً عن آيات تدعم رأيه المسبق. ومن الآيات المفضّلة لدى هؤلاء، إضافة إلى الآية “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (متّى 22، 21)، قول المسيح “مملكتي ليست من هذا العالم” (يوحنّا 18، 36).
اللافت أنّ معظم مَن يستشهدون بهاتين الآيتين لا يهتمّون بسياقهما أو بمدلولاتهما العميقة، بل يكتفون بقراءة سطحية لهما. فهم يذهبون مباشرة إلى الاستنتاج بأن المسيح يرفض أن تكون له مملكة على الأرض، وأنه يدعو أتباعه إلى عدم الاهتمام بهذا العالم بل الاكتفاء بانتظار العالم الآتي حيث سيملك فيه المسيح إلى الأبد. وهذان الاستنتاجان غير صحيحين، فالمسيح لم يدعُ أتباعه إلى عدم الاكتراث بشؤون البلاد والعباد.
“مملكتي ليست من هذا العالم” عبارة لا تنفي أن تكون مملكته “في هذا العالم”. ولكونه اعترف بأنه ملك، فهذا يعني أن مملكته قائمة وحاضرة حيث ثمة مَن يدين لها بالولاء. هي مملكة بلا حدود جغرافية أو لغويّة أو عرقية، وليس فيها أي تمييز ديني أو مذهبي أو طائفي أو عنصري أو جنسي، أركانها المحبة والرجاء والإيمان، والعدل والسلام والإنصاف. وليس صحيحاً أن يكون المسيح قد أرجأ تحقيق مملكته إلى أمد غير منظور. فهو أتى وأعلن منذ بدء بشارته أن ملكوت الله اقترب، بمعنى أنه بات على الأبواب.
أما أتباع فيسوع فعلى مثاله ينبغي أن يكونوا، وإلاّ لن يكونوا منتمين إلى مملكته. فهو يقول عنهم: “فأبغضهم العالم لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لستُ من العالم” (يوحنّا 17، 14). لم يقل المسيح إنهم ليسوا في العالم، أو انهم يحيون منذ اليوم في السماء. قال إنهم ليسوا يتصرّفون بحسب ذهنية هذا العالم. دعاهم إلى أن يثوروا ضدّ قوانين هذا العالم التي تسمح للقويّ بأن يسحق الضعيف، وللجشع بأن يأكل مال الفقراء والأرامل. لذلك “أبغضهم العالم” ونبذهم واضطهدهم. ولم يطلب المسيح منهم أن ينكفئوا عن نصرة المستضعَفين، بل أرسلهم كالخراف بين الذئاب ليقولوا كلمة الحق: “فكل مَن كان من الحقّ يصغي إلى صوتي”.
هاجس المسيح الأساسي هو تحويل العالم وجعله يليق بما شاءه الله حين خلق الإنسان الأوّل ونصّبه سلطاناً على الأرض. لذلك، من الظلم القول بأنّ المسيح هرب من مواجهة الواقع الشرّير ومن مقاومته، وبأنه فصل بين الحياة على هذه الأرض والحياة الأبديّة. فكلّ شيء يبدأ “الآن وهنا” كما يحبّ اللاهوت الأرثوذكسي أن يعبّر عن بطلان عامل الزمان حين التحدّث عن الملكوت. الملكوت آت، ولكنّه حاصل في الوقت عينه.
لذلك دعا المسيح أتباعه إلى التزام شؤون الدنيا والناس، والدفاع عن القيم والفضائل، والصدع بالحق. فالمسيحية، على عكس ما يتصوّر بعضهم، ديانة لا تعنى بالأمور الروحيّة فحسب، بل تسعى إلى عالم أفضل يسوده السلام والعدل والمحبّة والرحمة… وهذا يتطلّب جهاداً ضدّ الشر والخطيئة.
من دون هذا الجهاد، يصبح أيّ سلوك مسيحيّ شهادةً ضدّ المسيح. وهو نفسه إذ يلقّب هيرودس بـ”الثعلب” (لوقا 13، 32)، يدعو أصفياءه إلى عدم التهاون مع الثعالب أياً كان القناع الذي ترتديه.
النهار