ثلاث سنوات مع البابا فرنسيس، ثلاث سنوات من حبريّة ترافقها رحمة الله. حب بدون حدود أو مقياس شهِد له الأب الأقدس في كل لحظة: من زيارته لمبنى الأمم المتحدة أو افتتاح اليوبيل وصولاً إلى تلك اللحظات الشخصيّة كلقائه مع المساجين والمدمنين. وبمناسبة الذكرى الثالثة لانتخاب خورخيه ماريو برغوليو خليفة للقديس بطرس نستعيد معًا بعضًا من هذه اللحظات والخطابات والصور التي تتمحور حول الرحمة.
“اسم الله هو رحمة” يقول البابا فرنسيس، وإلى رحمة أيضًا يتحول يومًا فيوم اسم حبريّته. الرحمة هي شعار أسقفية خورخيه ماريو برغوليو، وللرحمة كرّس أول صلاة تبشير ملائكي تلاها مع الحجاج، والرحمة هي من أكثر الكلمات التي يذكّر بها في عظاته الصباحيّة في كابلة بيت القديسة مرتا. هذه كلها تشكل إشارات على درب حمل إلى ذلك الإعلان، نقطة وصول مدهشة ومنتظرة منذ سنة: “لقد قررت أن أقيم يوبيلاً استثنائيًّا يتمحور حول رحمة الله. ستكون سنة مقدّسة للرحمة، ونريد أن نعيشها في ضوء كلمة الرب: كونوا رحماء كالآب”.
يؤكد البابا فرنسيس أنا مقتنع أن الكنيسة بحاجة لتنال الرحمة، وبالتالي فروما لن تكون وحدها مركز اليوبيل، لا بل سيكون هناك العديد من المراكز بقدر الجماعات الكنسيّة الحاضرة في العالم. يوبيل منتشر وكاثوليكي بكل ما للكلمة من معنى. ولذلك وليسلّط الضوء على هذا البعد لم يفتح البابا فرنسيس أول باب للرحمة في البازيليك الفاتيكانيّة وإنما في كاتدرائيّة بانغي، عاصمة أحد البلدان الأكثر فقرًا على الأرض، لتصبح هكذا الضاحية محورًا: بانغي تصبح عاصمة العالم الروحيّة، وسنة الرحمة تبدأ مسبقًا في هذه الأرض؛ وجميعنا نطلب السلام والرحمة والمصالحة والمغفرة والحب. فإن كان اليوبيل يبدأ في الثامن من كانون الأول، وقد سبقته الوقفة الأفريقية في التاسع والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر، لكنه في الواقع قد أنار جميع اللحظات التي تلت إعلان الثالث عشر من آذار مارس الماضي.
لقد أصبحت كلمة رحمة حاضرة في محادثات المؤمنين اليومية، كما وتظهر أيضًا في شبكات التواصل الاجتماعي كأحد المواضيع المهمّة في التواصل الرقمي. لقد ساهم في انتشار هذه الكلمة تعليم الأب الأقدس الذي يستمدُّ حيويّته من الرحمة ليعيدها من ثمَّ محمّلة بثمار عديدة. وأحد الأمثال الواضحة في هذا الإطار هو الخطاب الذي ألقاه البابا فرنسيس في ختام السينودس حول العائلة، إذ قال: لقد جعلتنا خبرة السينودس نفهم بشكل أفضل أن المدافعين الحقيقيّين عن العقيدة هم الذين يدافعون عن الروح وليس عن الحرف، عن الإنسان وليس عن الأفكار، عن مجانيّة محبة الله ومغفرته وليس عن الشرائع والقوانين. هذا الأمر لا يعني بأي شكل التخفيف من أهميّة الشرائع أو الوصايا الإلهيّة وإنما تسليط الضوء على عظمة الله الذي لا يعاملنا بحسب استحقاقاتنا ولا بحسب أعمالنا، وإنما فقط بحسب سخاء رحمته اللامتناهية.
بفضل البابا فرنسيس، أصبحت الرحمة أيضًا الدبلوماسيّة التي يستعملها الأب الأقدس في حبريته لحلّ النزاعات وإطلاق ديناميكيات سلام واستعادة اللقاء بين أطراف كانت قد فقدته فيما بينها؛ يتوجه الفكر مباشرة إلى كوبا والولايات المتحدة، إلى كولومبيا وإلى جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث بزياراته الشجاعة زرع البابا فرنسيس بذار مصالحة حملت ثمارًا بعد عودته إلى روما. إن العلامة الأكبر للرحمة الإلهية ومفاجأة الله لنا في هذه السنة الثالثة من الحبريّة كانت اللقاء مع البطريرك الأرثوذكسي كيريل. لقاء بين أخوين في المسيح، كما قال البابا نفسه بكلمات مؤثرة على متن الطائرة التي حملته من كوبا إلى المكسيك: لقد شعرت أنني أمام أخ وهذا ما قاله لي أيضًا هو بدوره. أسقفان يتحدثان عن وضع كنيستيهما وعن وضع العالم والحروب، عن الأرثوذكسية والسينودس الأرثوذكسي… أقول لكم لقد شعرت فعلاً بفرح داخلي آتٍ من الرب.
في إطار الرحمة تلمس قلوبنا تصرفات البابا فرنسيس: حنون ومحب في عناقه للأشدّ عوزًا، وقاس وحازم في إدانة الشر. مؤثرة جدًا في هذا الإطار أيضًا الكلمات التي يستعملها في حديثه عن تجار الحرب وعن الذين يسحقون الضعفاء في سبيل أرباحهم: هناك كلمة لهم من الرب: “ملاعين” لأنه قال “طوبى لفاعلي السلام”، وهؤلاء الذين يصنعون الحرب هم ملاعين.
السنة الثالثة للحبريّة هي أيضًا سنة “كُن مُسبَّحًا”. رسالة عامة وإذ تدخل في إطار العقيدة الاجتماعية لكنها تشير إلى ضرورة العناية بالبيت المشترك. مرة أخرى يوسِّع البابا فرنسيس أُطر التفكير وأمام التفسيرات المحدودة التي تُقيّم هذه الوثيقة على أنها إيكولوجيّة وحسب يجيب مسلطًا الضوء على أن العناية بالبيئة والدفاع عن البشريّة هما وجهان للميداليّة عينها: “إن بيتنا هذا يُدمّر وهذا الأمر يؤذي الجميع لاسيما الأشدّ فقرًا. وبالتالي إن ندائي هذا هو نداء للمسؤوليّة التي تقوم على المهمة التي أعطاها الله للكائن البشري في الخلق: “ليفلح ويحرس البستان” الذي جعله الله فيه”.
يطلب البابا أن تقبل هذه الوثيقة بروح منفتح بالرغم من أن الانتقادات لم تغب أيضًا على الصعيد الكاثوليكي؛ فهناك من يرى في تعليم البابا فرنسيس تركيزًا زائدًا على مواضيع الفقر والتهميش وبالتالي هناك من يطلق عليه تسمية “البابا الشيوعي”، إلى هؤلاء بالتحديد يتوجّه البابا فرنسيس مذكرًا أن محبة الفقراء هي محور الإنجيل، وبالتالي فهي ليست اختراعًا شيوعيًّا ولذلك فهو لا يتوانى عن استعمال سلاح السخرية في حديثه عن الموضوع ويقول: إن تعليمي حول هذا الأمر كله، حول “كُن مُسبّحًا” والإمبرياليّة الاقتصاديّة، هو في تعليم الكنيسة الاجتماعيّ. وإن اضطرّني الأمر لأن أتلو قانون الإيمان فأنا مستعدٌّ لتلاوته.
كما في السنتين الأول من الحبريّة، لكن في الواقع أيضًا كما في حياته بأسرها كراع، يستمرّ البابا فرنسيس في كونه صوت من لا صوت له لكي يُسمع صوته، وبالنظر الثابت إلى اللاجئين الهاربين من الحروب والجوع ويدعو لبناء الجسور لا الجدران، ويقدِّم المثل للجميع من خلال استقبال عائلتين من اللاجئين في الفاتيكان. يشعر بقربه الشباب العاطلين عن العمل والنساء ضحايا الإتجار بالبشر، والحركات الشعبيّة التي تكافح من أجل الأرض والبيت والعمل. كما ويدين البابا باستمرار الحلقات المفرغة التي تولّدها ثقافة الإقصاء التي تهمّش المسنين وتغلق أبواب الحياة على الأطفال؛ فالإجهاض، يقول الأب الأقدس، ليس مجرّد شر وإنما جريمة. إنه قتل شخص لإنقاذ آخر، وهذا ما تقوم به المافيا. وفي أرض خاضعة للإجرام مثل سكامبيا أدان البابا فرنسيس بقوة آفة الفساد وقال: “إن أغلقنا الباب في وجه المهاجرين وإن سلبنا الأشخاص عملهم وكرامتهم، ماذا يُدعى هذا الأمر؟ يُدعى فساد! يدعى فساد ويمكن لكل منا أن يصبح فاسدًا…”
من جهة أخرى لا يخاف البابا فرنسيس من أن يعترف أن الفساد موجود أيضًا داخل الفاتيكان، وإذ يساعده مجلس الكرادلة التسعة يتابع عمله الإصلاحي في الكوريا الرومانية بشغف، ولكن هناك إصلاح يهمّه أكثر وهو إصلاح القلب. قلب، لكي يقبل رحمة الله الذي يأتي للقائه، ينبغي أن ينفتح على التوبة؛ إنفتاح وكما تؤكّد رسالة “وجه الرحمة” يبدأ بأن يشعر المرء بخطيئته: “فإن لم تكن تشعر بأنك خاطئ فأنت على الدرب الخطأ! لنطلب نعمة ألا تتصلب قلوبنا وتصبح قاسية وإنما أن تكون منفتحة على رحمة الله وأن نتعلّم كيف نطلب المغفرة عندما نجد أنفسنا غير أمناء لله”.
إذاعة الفاتيكان