كان صادِقاً في إنتِقاداته الساخِرة والواقعيّة في آن، لهؤلاء الذين كانوا يَعتَبِرونه صَديقهم “العَنيد” الذي لا يَنتمي لأحد ويعيش الأيام مُتوغلاً في الرسم الكاريكاتوريّ، الذي أهداه تلك الإستقلاليّة المُستَحقّة بوِقارها وأيضاً بصَخبها الأنيق.
أمس الأول، وبتَنظيم من “جامعة الكِبار” في الجامعة الأميركيّة في بيروت، تحوّلت التحيّة للراحل بيار صادق، “جَمعة” عائليّة، ضمّت بعض الذين تابعوا مَسيرة الرسّام الكاريكاتوري الذي دعاه الموت عام 2013 ليُكمِل مُشواره مع ريشته، هُناك، حيث الأحلام تولَدُ من جَديد. وَصلوا قَبل الوَقت المُحدّد للأمسية التي حَمَلَت عنوان، “قصّة الصَفحة الأخيرة مع ريشة بيار”، تَبادلوا الأحاديث الجانبيّة، مُستَعجلين عقارب الساعة. “هلّق بيصير وَقت بيار وضحكتو التي ملأت وجهه وشَغَلَت الرأي العام”. لم يَستمر اللقاء طويلاً، لكنه استَراح على الكَثير من الذكريات والكَثير من الّلحظات. بعض حَنين يُلوّن فراغ الأيام، ثم اعتلت نجلة “بيار” غادة صادق أبيلا خَشَبة قاعة “بطحيش” في مَبنى الوست هول بهدوء يرافقها نَجله عُمر. معاً، أخذا الحُضور، الذي أمضى الوقت ما بين الضحك والغصّة والتَصفيق، في مُشوار إلى ذاك الزَمن الجميل الذي نَعتب عليه إستئذانه المُبكر. عبثاً نُحاوِل التَمسّك بتلك الإبتسامة كما نُحاوِل تأجيل لحظة الوداع المَحتومة. ساعة و”كم دقيقة” لخّصت 5 عقود أمضاها بيار صادق بِرِفقَة ريشته، راصِداً الحوادِث اليوميّة التي عاشَها البَلَد والمَنطِقة والعَالم. تَحدّثت غادة خلال اللقاء عن بيار. أما عُمر، فبدأ الرِحلة مع الذكريات بكلمة “بابي”، وسُرعان ما تنبّه إلى لحظة الحنان الهارِبة فاستَبدَلها ببيار! بداياتُه، دروسه، دخوله “النهار” التي إعتبرها جامعته الحقيقيّة وتحوّلت لاحقاً منزله. شخصيّة “توما” التي رافقت رسومه، تَقديمه للمرّة الأولى في البلد الرسوم الكاريكاتوريّة المُتحرّكة على شاشة التلفزيون. بعض ذكريات عاشتها العائلة مع الأب والزوج الذي لم يتمكّن يوماً من أن يتخلّى عن عادته في تحويل كل حَدَث أو مَشهَد أو لحظة، رسم كاريكاتوريّ في ذِهنّهِ. بعض مُقتَطفات من مُقابلات تلفزيونيّة أجراها على مرّ السنين. أبرز الرسوم الكاريكاتوريّة التي عَكَسَت لحظات تاريخيّة ظَهَرَت على الشاشة الخلفيّة للمسرَح، الى شَهادات كبار عايشوه وعرفوا إصراره في ألا يتدخّل أحد في أفكاره ورسومه. بعض نوادر مع زُعماء لم يتمكّنوا من تَرويض ريشته “البَهيّة” في إعترافاتها وإتهاماتِها الخَطيرة.
التَهديدات التي تلقّاها بيار صادق لم تتوقّف يوماً، وكان الأعداء يعرفون تماماً أن نقطة ضعفه الوحيدة هي عائلته الصغيرة … وكم استغلّوا نقطة الضعف هذه! وبعض أهل السياسة كانوا يَعتبون علناً على صادق عندما “يَنساهم” لفترة طويلة في الرسوم، فيَهتفون، “ولو! ما عم تنتقدنا!”، وكأن “إنتقادات بيار” كانت أشبه بالتحيّة السريّة. النائب مروان حمادة قال عن صادق أنه كان أكثر من قادر على إقالة حكومات ودَعم أُخرى. وكان أكثر من قادر على تدمير رئيس ودَعم آخر. أما الرئيس حسين الحُسيني، فقال بوضوح إن بيار لن يتكرّر، وقد تفاعل معه حتى عندما كان ينتقده.
بيار “شخصيّة مُحبّبة”، كان صادق يقرأ الكثير والكثير، قبل أن يَنتَقل إلى التَحليل الذي أتقنه وعَرف أن يروّض جموحه، ليَصل في المَرحلة الأخيرة إلى الرَسم. هو من نَقَلَ الكاريكاتور على 8 أعمدة في الصفحة الأخيرة لـ”النهار” ليُعرّف القارئ عام 1975 إلى شخصيّة “توما” التي لازمته كريشته “المِحتالة” التي لا يَفوتها أي شيء. عمر وغادة أكدا أن الّلقاء الحميم في الأميركيّة ضروري كأهميّة تأسيس العائلة “مؤسسة بيار صادق” عام 2014 بعد عام على غياب الأب المفرط العاطفة.
الّلقاء يُعيد بيار إلى الذين أحبّوه. فَليَعُد إلى الموت في وَقت آخر. والمؤسسة ستأخذ على عاتقها نَشر تاريخ بيار صادق الذي يُلخّص في أعماله كل تاريخ البلد الحَديث. كما ستعمل المؤسسة جاهدة، برئاسة غادة، على اكتشاف المواهب الشابة. و”مين رح يكون بيار الجديد؟”، وذلك من خلال “جائزة ريشة بيار”. 30 ألف كاريكاتور تروي القصص وتستفزّ التاريخ. هَدف المؤسسة الرئيسي “أرشفة” هذه الأعمال التي كرّس صادق حياته لإنجازها.
بيار صادق، رَجل العِبَر، الفنّان الذي وَضَعَ إصبعه على الجرح اليوميّ، رَسَمَ بكثير من الواقعيّة والفُكاهة، وكم كان يحلو له أن يهتُف ضاحكاً، “أنا عنيد!”.
النهار