احتفلت جامعة الروح القدس – الكسليك بعيدها السنوي، عيد العنصرة، في حضور حشد من السياسيين والسلك الدبلوماسي ورؤساء وممثلي الجامعات ومن الجسم التربوي والإداري.
وللمناسبة، ترأس الأب العام نعمة الله الهاشم قداسا بالمناسبة ومجلس المدبرين، وألقى رئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة، كلمة شدد فيها على موضوع “الجامعة والتربية على التعددية”.
واشار الى مهمة الجامعة في التربية على التعددية، وانطلق من مبدأ قائم على أسس فلسفية معتمدا مقولة كانط الشهيرة، “إن الأنسان لا يصبح إنسانا إلا بالتربية”.
واقترح، في مداخلته، باقة من الأفكار المتداخلة والمتفاعلة في ما بينها والمتنوعة، “التي قد تشكل، بين العديد من مثيلاتها، خارطة طريق، تتجسد أبعادها في مبادئ تربوية تسهم في إعداد أجيالنا الناشئة على طريقة عيش تعترف بالغيرية وبالتعددية، وتعتمدها، لاحقا، نهجا مجتمعيا قوامه مبدأ الحق في الاختلاف”.
واشار الى الإسهامات الفاعلة التي أتت بها المسيحية والفلسفة وعلم الأنتروبولوجيا وعلم الوراثة، وسواها من العلوم والتي تصب كلها في خلاصة لا لبس فيها: إن الحياة لا تنمو ولا تستمر إلا في حضن التنوع.
وربط الأب حبيقة تمسكه العنيد بالتربية على التعددية، بوقائع من التاريخ “تثبت بشكل جلي أن المستقبل إنما هو معقود للمجتمعات التي تحسن إدارة التنوع وتخصبه في هيكليات تكاملية منسجمة في تآلف الاختلاف. فانطلق من أثينا المقهورة مقارنا بينها وبين إسبرطة المنتصرة عسكريا، وأظهر في تحاليل متماسكة، عبثية الانصهار في جماعة واحدة تذوب الآخر المختلف في عنصرية حادة من جهة، ودينامية التعددية العابرة للحدود والساعية إلى التلاقي والتواصل عن طريق المعرفة، من جهة ثانية”.
وقال: “ننصح طلابنا أن ينهلوا من تاريخ اليونان القديمة، يوم شكل الهللينيون صيغتي عيش متناقضتين كليا لإدراة مدينتهم: من جهة إسبرطة، التي كانت تشق النفس بحثا عن تماسك شعبها وانصهاره في جماعة واحدة، عبر الحفاظ المفرط على نقاوة العرق والدم وطرد كل غريب عن أرضها، […] وأثينا التي أظهرت وجها معاكسا؛ فكانت تعيش في مناخ من الديموقراطية، مشرعة أبوابها لعشاق المعرفة والبحث عن الحقيقة، […]. من يتذكر اليوم إسبرطة وانتصاراتها الميدانية، من يتذكر عنصريتها العمياء، وفخرها المجوف في سبيل سيادة نقاوة العرق والدم ووحدة الدين؟ في حين أن أثينا دامت على الزمن قطب الثقافة والفلسفة واللاهوت والعلوم والآداب والمسرح والسياسة، الذي عصي على الموت”.
من جهة ثانية، شدد حبيقة على معاني العنصرة الدينية والإنسانية، كونها محطة مسيحية كبرى، دعما لتأهيل الجيل الناشىء على الحوار والإنفتاح ورذل اختزال الآخر المختلف، لأن العنصرة، التي تعني في العبرية الاجتماع والتلاقي، تختزن في جوهرها المعنى الجامع للإنسانية، والمعنى العلاجي للتاريخ البشري المأساوي، فبفضلها تهجر الغيرية الثقافية سجل التلاغي الثقافي، وتعبر إلى عهد جديد من حوار حضاري صادق، وذلك عن طريق مقاربة منفتحة على الواقع التعددي المعاش: “هكذا نرى أن جميع شعوب البحر الأبيض المتوسط، المتحلقين حول الرسل في علية صهيون، حاملين معهم ذاكرتهم التاريخية وثقافاتهم المتنوعة في لغات متعددة، كانوا يفهمون على القديس بطرس المتكلم بالآرامية، بفضل حلول الروح القدس، روح الله الحاضن للوجود بأكمله، في لغتهم ومنظومتهم الفكرية. إن العلاج لبرج بابل في تبعثره اللغوي وتصدعه المجتمعي لا يقوم على نزع الفروقات وإلغائها أو على الأحادية والانصهار، بل على فهم حضارة الآخر وتذهنها وقبولها. في المعادلة الجديدة هذه، تتساوى اللغات والثقافات، وبالتالي، تمتنع أية واحدة منها عن الإدعاء لذاتها قدسية ما أو أن تتفرد باحتضان الحقيقة”.
وألقى الضوء على “أورشليم الجديدة”، التي بشرت بها المسيحية بأبعادها الجوهرية الثلاثة، والتي لا تزال وعدا للشعوب المشرقية من أجل عيش منفتح على التعددية بـ: “تحررها من قدسية الحدود الجغرافية، وانعتاقها من الأحادية الثقافية القائمة على العزل الديني والعنصري؛ وتحولها إلى مدينة المصالحة، مدينة الله، التي تجمع الهويات الدينية والثقافية، في مساحات القبول المتبادل والتكامل، بفضل فيض روح الله الموحد في التنوع”.
واستشهد الأب حبيقة، لدعم التربية على التعددية، بالآية 118 من سورة “هود” في القرآن الكريم “لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة”، و”بميثاق المدينة” الموقع من النبي محمد مع اليهود والنصارى والصابئة، في 16/7/622/ أولى /هـ؛ و”قد اشترطت بنوده توزيع المهمات الإدارية المتعلقة بشؤون المدينة توزيعا عادلا، بين أهلها، على اختلاف مشاربهم، معتبرة الآخر، المختلف ثقافيا ودينيا، شريكا كامل الحقوق والواجبات”، وقال: “بعد “سقوط صحيفة” المدينة وفرض الشريعة الإسلامية، كان لزاما على الشرق المقهور والهائم في ظلاميات الأنظمة السياسية، أن ينتظر أربعة عشر قرنا لكي يرى فلسفة “ميثاق المدينة” وروحيته تنبعثان مجددا في حلة جديدة وقشيبة في الميثاق اللبناني والصيغة اللبنانية”.
واعرب عن رأيه بالعولمة الكاسحة الناسفة للخصوصيات والمقوضة للحدود، والباعثة على اصطدامنا بإشكالية وجودية لا يمكن التغاضي عنها أو إهمالها: “هل إن الوجود الإنساني هو الإشكالية أم إن الوجود المشترك والعيش معا هما الإشكالية؟”، لأنها تهدد بعاصفة الإحتدام بين الهويات القاتلة”.
وسأل: “كيف سيتمكن المرء من العيش بدون الآخر، بدون اللا أنا؟ “هل بدون الآخر، بدون هذا اللا أنا، كنت لأعي هويتي الخاصة؟ وهذا اللا أنا أليس هو الغريب القابع في صلب غيرتي في كل لا يتجزأ من جسم الإنسانية؟ وعندما أجرؤ على اختزال هذا الآخر المختلف، الذي ينتصب أمامي ويخضني في قناعاتي ومسلماتي، سأكتشف، بالتالي، أنني في التصدي الإلغائي أو الإقصائي له، كنت أعمل، عن قصد أو عن غير قصد، على تحطيم ذاتي”.
وتناول مبدأ “الفرادة”، ومفهوم “التجذر” كمعادلة أنطولوجية مقدرة، ويقابله بالمفهوم العلمي الجيني الوراثي، المؤكد على أن الإنسان لا يحمل من مخزون تراثه الجيني إلا النصف الآتي من الأهل، أما النصف الثاني فمن الطبيعة، ما يعني أن النصفين معا يصيغان كائنا بشريا فريدا من نوعه، لم تعرف البشرية ولن تعرف مثيلا له.
وأكد “أن على المجتمعات أن تصحو وتعي مواقعها الزمنية والجغرافية، وأن تدرك أنه ليس لها أدنى إرادة في اختيارها، وكي تحظى المجتمعات بقدر آخر وأفضل”، داعيا إلى “الإلتزام بنهج تربوي يواكب الحركة العصرية في تأهيل الإنسان القادر على التحرر من العنف العنصري، ومن التزمت الديني، ومن الإنغلاق على الذات، ومن التضخيم الأحمق للذات، ومن اختزال الآخر والتعامي عن الخصوصيات أو التغاضي عن الحق في الإختلاف، ومن التلاغي القاييني أو التلاغي الثقافي”.
واعلن ان الجامعة يجب ان تكون الخلية الأولى في المجتمع لترسي أصول العيش معا “فتربيهم على التثمين الإيجابي للتعددية الثقافية وللتثاقف المتبادل، وبذلك تكون قد انطلقت بطلابها نحو أفق المدينة الآتية، “أورشليم الجديدة”.
وفي ختام كلمته توجه الى الطلاب بالقول: “إن الجامعة الموكل إليها تربيتكم توظف قناعتها في الكلمة الإنسانية كمرجعية أولى وأخيرة لتلاقي البشر بعضهم ببعض وللتفتيش معا، على متن الكلمة حكرا، عن معالجات عاقلة لقضيانا كافة. بواسطة الكلمة، تعبر البشرية التاعسة والمسكونة بهاجس السعادة، نحو حاضرة إنسانية تحضن الحوار قاعدة في إدارة التنوع، والمصالحة سلوكا دائما لترميم المنظومة العلائقية. آنذاك يصبح بمقدور البشر، على اختلاف انتماءاتهم وثقافاتهم، أن يعيشوا في كنف حضارة المحبة والسلام”.
وطنية