نتحدث كثيراً عن جهابذة التمثيل والإخراج، لكننا نادراً ما نهتم بأسماء لمعت في مجال النقد السينمائي من طينة جان ميشال فرودون، الناقد والصحافي الفرنسي الذي كان وراء تطوير صفحة السينما بـ”لوموند” عندما تسلم مقاليدها في العام 1995. ولا تزال مجلة “دفاتر السينما” العريقة تحتفظ تقريباً بالتصور نفسه الذي نفخه في روحها حين اضطلع بمهام ادارة تحريرها بين 2003 و2009. الرجل هو أيضا مئات المقالات النقدية الرصينة، وكتب مرجعية عديدة عن مخرجين نذكر منهم وودي آلن وهو شياو شيين وجيا زانغيه وروبير بروسون وادوارد يانغ وأموس غيتاي. من دون أن ننسى مؤلفاته حول السينما الصينية وقضايا السياسة في السينما الفرنسية.
الخيط الذي ينظم هذه التجارب كلها هو التزام السينما والسياسة كقضية واحدة، على غرار كل من عاشوا حوادث أيار 1968 بعمق وجدانهم. هذه مدرسة أنجبت – بالرغم من انزلاقاتها – أفضل مَن كتبوا ونظّروا في السينما على مرّ العصور. فلسفتها هي السينما، في الموازاة مع السياسة، وسيلتان من أجل فهم العالم، وتأسيس موقف أخلاقي يحكم نظرتنا إليه، ويحدد كلّ اختياراتنا المتعلقة بالعيش فيه. الكلمة التي تعود كلّ مرة في حديث فرودون هي الشغف. فرودون أعطى السينما الكثير ولا يزال يعطي من سنواته الاثنتين والستين بشغف وحماسة. في نهاية الشهر الفائت، حلّ ضيفاً على مهرجان تطوان (الدورة الثانية والعشرون)، حيث قدم مداخلة قيّمة في ندوة عنوانها “حين تحكي السينما مآسي المتوسط”. اغتنمنا الفرصة من أجل مجالسته.
* هلّا حدثتنا عن أولى ذكرياتك مع السينما؟
– أولى ذكرياتي تعود إلى فترة الطفولة، وتتعلق بأفلام شابلن وباستر كيتون القصيرة التي شاهدتها في السينماتيك الفرنسية. أما الفيلم الأول الطويل الذي شاهدته فكان “طائرة ورقية من أقاصي العالم” لروجيه بيغو (1958). قصة حلم فتى باريسي تحمله طائرته الورقية إلى الصين. هذا أمر طريف حين أفكر فيه اليوم، لأن الأفلام الصينية لطالما جذبتني، إلى جانب السينما كوسيلة للسفر، وهذا كله كان حاضراً في الفيلم الأول.
* هل كنت ترتاد قاعات السينما كثيراً في الصغر؟
– نعم، فترة طفولتي تزامنت مع نهاية الخمسينات وبداية الستينات، حيث كان الجميع تقريباً يرتاد السينما لكونها وسيلة الترفيه الأولى. بالإضافة إلى هذا، كان والداي يشتغلان في مجال السينما، ما جعلني قريباً منها. كانت هناك قاعات عدة في الحيّ حيث كنا نقطن بباريس، فكنت أحيانا أذهب إليها بمفردي مذ أصبحتُ في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة.
* هل ثمة مخرجون معينون صنعوا سينيفيليتك المبكرة؟
– سينيفيليتي بدأت مباشرة بعد أيار 1968، وارتبطت بالحوادث الشهيرة التي شهدتها تلك الفترة. قبل ذلك ليس في وسعنا الحديث عن سينيفيلية. كان الأمر يتعلق بالذهاب إلى السينما ومشاهدة أفلام الوسترن أو الكوميديا الموسيقية أو الأفلام البوليسية شأني شأن كل الأطفال. ابتداء من أيار 1968، انطلقت فكرة السينما المرتبطة بالسياسة. كانت الأمور في غاية الاختلاط آنذاك بين السينما وروح الالتزام. عندئذ اكتشفتُ مخرجين عديدين من طينة بازوليني وفورمان وفيلليني وغودار وروشا ويانتشو واوشيما وبرغمان وبونويل. فجأة انفتحت أمامي هذه القارة المختلفة جداً التي كانت دائماً تجسد سينما تطرح أسئلة بطريقة أو بأخرى. أسئلة اسلوبية وفنية، وفي الوقت نفسه سياسية. تختلف درجة حضور هذين الجانبين بحسب كل تجربة على حدة، لكن بالنسبة إلينا، كان المعطيان يسيران معا، وفكرة تحطيم السينما العجوز كانت هي نفسها فكرة انتقاد العالم القديم البورجوازي أو الرأسمالي.
*هناك أيضا خطاب نقدي ازدهر بعد أيار 1968 في مجلة “دفاتر السينما” وغيرها ويصطلح عليه “الفترة الماوية”. كيف عشت تلك الفترة؟
– الأمر سيان. كنت لا أزال آنذاك فتى يافعاً في الخامسة عشرة. اكتشفتُ “دفاتر السينما” بفضل مكتبة “ماسبيرو”، حيث كانت تعرض كلّ المنشورات المهمة بما فيها الآتية من العالم الثالث. لم أكن أملك مالا كافيا لشراء نسخة من “دفاتر السينما”، فكنت أذهب إلى هناك لقراءتها. وقد استحوذت على شغفي رأساً، لأنها كانت تعمل على تشغيل المقاربتين الفنية والسياسية في آن واحد، مع أنني قد لا أكون اليوم متفقاً تماماً على أسلوب هذا الاشتغال، لكن مبدأ عدم التفريق بين المسألتين كان لي مهماً آنذاك، وبقي ذلك معي بطريقة ما إلى يومنا هذا.
* ماذا عن الفترة التي أمضيتها كناقد سينمائي في “لو بوان”؟
– لم أكن أرغب في أن أكون ناقداً سينمائياً. كنت أذهب كثيراً إلى السينما وأقرأ المقالات بشغف، لكني لم أكن أنوي البتة أن أتخذ من النقد مهنة، لأنها بكلّ بساطة كانت مهنة أبي (ضحك). لم أكن أرغب في تقليد أبي. لكن في النهاية، كان هو وراء التحاقي بالمؤسسة حيث كان يشتغل، لأن المكلّف الصفحة السينمائية أصيب بمرض عضال. كان هناك نقّاد آخرون يشتغلون إلى جانبه، فطلب اليّ أن ألتحق بهم للمساعدة. في البداية، كان الأمر بمثابة لعبة لي، ثم أحببتُ شيئاً فشيئاً ما كنت أعمله، وأحبوا من جانبهم ما كنت أنجزه. بدأتُ بكتابة فقرات صغيرة عن الأفلام السيئة المعروضة التي لم يكن الآخرون يرغبون في مشاهدتها. بمرور الوقت، بدأتُ أتكفل أفلاما أكثر أهمية، وأكتب مقالات أطول، فتم ضمي الى كادر الصحيفة. ثم أصبحتُ في ما بعد مسؤولاً عن الصفحة السينمائية في “لو بوان”. عشتُ هذا كلّه بمرح، لأنه كان يتسم بالخفة. سُمح لي باكتشاف أشخاص لم أكن يوماً أفكر في لقائهم، مثل المخرجين والممثلين وغيرهم. طريف للغاية اني كنت قد التقيتُ أندره تيشينه، الذي يتم تكريمه هنا في تطوان (يبدأ عرض فيلمه الأخير “عندما نبلغ سبعة عشر عاماً” اليوم في فرنسا)، آنذاك عند خروج فيلمه “موعد” (1985)، كان لقاء مؤثراً بيننا لأننا تفاهمنا منذ البداية وصرنا صديقين. إذاً، كانت هناك العلاقة مع الأفلام، فأضيفت اليها العلاقة مع الأشخاص، ثم أتت العلاقة مع الأسفار، حيث كنت أسافر كثيراً في تلك الفترة. من بين الأسفار التي قمتُ بها – كنت محظوظاً بها أو بالأحرى عملتُ جاهداً لتحقيقها – رحلة إلى الاتحاد السوفياتي في فترة البيريسترويكا، حيث شاهدنا كلّ السينما السوفياتية التي كانت ممنوعة في الخارج. ذهبتُ أيضاً إلى الصين في زمن انبثاق “الجيل الثالث” ونهضة السينما الصينية بعد الثورة الثقافية. كانت هاتان الفترتان مهمتين حيث انفتحت سينما بلدين كانتا مسحوقتين، مما أثمر لقاءات مهمة طبعها شعور طافح لدى السينمائيين هناك. حينها، بدأتُ أهتم باقتصاديات السينما. النقد جيد، لكن كان مهماً لي أن أستطيع عدم التفريق بين التفكير النقدي والتفكير حول آليات التمويل وسياسات الدول في مجال السينما. عندها تكشّفت لي السينما كمنظومة، وكيف يمكن أن نفهم كلّ شيء عن مجتمع ما انطلاقاً من السينما. من أجل هذا، يجب أن ننكبّ على الأعمال والناس والمال والقوانين والسلطة. إذا فعلنا هذا، وهو أمر في المتناول بواسطة مهنة السينما، يمكننا أن نفهم كيف يشتغل مجتمعٌ ما من الداخل.
* بعدها، جاءت فترة عملك في “لوموند”. كيف عشت هذا الانتقال، وخصوصاً ان لدى الصحيفة الشهيرة قاعدة كبرى من القراء، ممّا قد يكون أثّر في اسلوب كتابتك…
– بالتأكيد، لكن لحسن الحظ لم أفكر في هذا الجانب. كنت سعيداً جداً، لأن “لو بوان” لم تكن يوماً جريدتي المفضّلة. كان لقائي معها محض مصادفة سعيدة وأنا ممتنّ لها. لكن هذا لا يمنع انها ليست جريدتي المفضّلة ولم أكن أطالعها قبل العمل فيها. أما “لوموند”، فكنت أقرأها منذ فترة طويلة، ومسؤولوها هم مَن اقترحوا عليّ أن ألتحق بهم، فقبلت فوراً، من دون أن أسأل “ماذا؟” أو “كم؟” أو أي شيء من هذا القبيل. قلت فقط: “حاضر. سآتي في الحال” (ضحك). بمجرد التحاقي بـ”لوموند”، قلت لهم اني أرغب في كتابة مقالات في النقد وعن اقتصاديات السينما، وهذا أمر لم يكن يفعله نقّاد السينما آنذاك، بل الصحافيون المكلفون التلفزيون. قلت لهم أريد أن أسافر كي أنجز ريبورتاجات وليس فقط مقالات عن الأفلام المعروضة في الصالات. أي أن أقوم بكلّ ما يقوم به الصحافيون المتخصصون في السياسة والاقتصاد وانطلاقاً من كلّ أشكال العمل الصحافي: الريبورتاج الكبير، اللقاء الصحافي، البورتريه، التحليل. هذا كله يمكن أن ننجزه مع السينما. كان مسؤولو “لوموند” متفقين معي منذ البداية، ممّا أتاح لي فرصة تحقيق كلّ ما ذكرت. كانت لديهم صفحة كلّ أسبوع مخصصة للسينما. بعد مرور أربع سنوات لي هناك، أصبحت لدينا أربع صفحات كل أسبوع، إضافة إلى ملحق السينما، وصفحات أخرى يختلف عددها من أسبوع الى آخر. طورنا كثيراً صفحة السينما انطلاقاً من فكرة أن الأمر لا يتعلق بالاشتغال على السينما فقط، بل بالاشتغال من أجل رؤية للعالم بعيون السينما. أي أننا كنا نقوم بمهمة الصحافي وليس فقط علبة السينيفيلية الصغيرة.
* المرحلة التالية في مسارك كانت العمل في مجلة “دفاتر السينما” لستّ سنوات. لا شك انها كانت حافلة. ما هي أبرز الدروس التي استخلصتها من تلك الفترة، وخصوصاً بالنظر إلى سيرورة هذه المجلة العريقة؟
– “دفاتر السينما” كانت، كما أسلفتُ، من بين قراءاتي الأولى، وقد استمررتُ في قراءتها بانتظام، واحتفظتُ برابط قوي معها. أثناء عملي في “لوموند”، عُرض عليّ مرات عدة أن أتقلد مسؤولية فيها. كان سيرج توبيانا قد اقترح عليّ أن أشتغل الى جانبه كرئيس تحرير، وطلب اليّ في ما بعد أن أساعده في اقناع “لوموند” بشراء “دفاتر السينما” التي كانت في أزمة. عندما تحقق الأمر ورحل توبيانا، قال لي مسؤولو “لوموند”: “فلتتقلد أنت المهام”، فرفضتُ لأني كنت أحبذ أكثر أن أكون في يومية شاملة وليس متخصصة. كنت أحب “دفاتر السينما”، ولي فيها أصدقاء كثر، وأقرأ كلّ اعدادها، لكن عملي في “لو موند” كان الى جانب أناس يهتمون بالمجتمع والرياضة وغيرها من المسائل، وليس فقط مجال السينما. في فترة معينة، برزت مشكلات بين “لوموند” و”دفاتر السينما”، فقالوا لي: “هيّا، حان وقت الذهاب الآن” (ضحك). “فليكن إذاً”. تسلمتُ المجلة بين 2003 و2006. بالنسبة لي، أن نكون مخلصين لـ”دفاتر السينما” لا يعني البتة أن نكرر ما كان يفعله أسلافي. أهميتها انها تتجدد كلّ مرة. لهذا، كان علينا أن نجدد مرة أخرى، وفي الوقت نفسه، أن نراعي مشكلاً لم يُطرح من قبل هو أن الأمر يتعلق بـ”دفاتر السينما”، وليس “دفاتر الصور” أو “دفاتر السمعي البصري” أو “القصص التاريخية” أو لا أعلم ماذا بعد. أقصد بـ”دفاتر السينما”، كلّ ما يصنع السينما في العالم الذي نعيش فيه. شيء آخر عملنا على تحقيقه هو تطوير العلاقة مع الخارج ودور نشر الكتب، وطوّرنا كذلك موقع الانترنت وطبع أقراص الـ”دي في دي” والشراكة مع المهرجانات والجامعات. وخلقنا اصداراً شهرياً باللغة الانكليزية على الانترنت، وفي اسبانيا أنشأوا بمساعدتنا “دفاتر السينما – اسبانيا”، مجلة مستقلة بفريق تحرير خاص لكن بتنسيق وبروح مشتركة. جزء كبير مما كنت أسعى الى تحقيقه تعلق بتأكيد محورية النقد، لذا غيّرنا الماكيت حتى تصبح مقالات النقد في بداية المجلة عكس ما كانت من قبل، بالإضافة إلى خلق حيز للصحافة، وحيز للجانب النظري. أي قسم لـ”دفتر النقد” يليه قسم صحافي أطلقنا عليه “جريدة الدفاتر”، ثم الحيز المتعلق بالجانب النظري.
هذه هي نفسها تقريباً الصيغة التي احتفظت بها المجلة إلى يومنا هذا. كان هناك أيضاً في نهاية المجلة قسم تاريخي أطلقنا عليه “السينما المستعادة”.
* ما هو التغيير الأساسي الذي بصمته على المجلة عند وصولك، وما هي نظرتك الى مآلها مباشرة بعد رحيلك؟
– بعد رحيلي، لم أعلم بالضبط مآل الأمور. ولم يكن لديّ تحكم في ما جرى، حيث طرحت “لوموند” باعتبارها الجهة المالكة المجلة للبيع. لم يكن هذا قراري، ولم أكن مسرورا بما حدث. بعد هذا رحلت. أما في ما يخص المقارنة مع فترة ما قبل وصولي، فحاولت أن أبقى داخل التاريخ الطويل للمجلة. أعتقد أن الفترة الى حدود 2009 على الأقل حققت استمرارية أكثر مما يظن كثيرون، ولو أن المجلة قد تغيرت، لحسن الحظ، فليس هناك أي معنى أن ننتج في التسعينات أو بداية الألفية الجديدة المطبوعة نفسها التي كانت تصدر في 1965. الى جانب هذا، قمنا أيضا بطلب انضمام قدامى “الدفاتر” إلينا من أجل الكتابة. أشخاص مثل برغالا وكومولي كتبوا في هذه الفترة الى جانب فريق تحرير جد شاب. فباستثنائي أنا، كانوا كلهم في الثلاثينات. كانت الفكرة هي: كيف نفعل من أجل ركوب التغيير من دون أن نغادر تاريخ المجلة الطويل؟
سعيد المزواري
النهار