أرمقُ في صورة على الجدار ضحكةً لا يغيّبها موتٌ ولا تسلبها سنوات الفراق قوة. أحد عشر عاماً، لم تتغيّر ملامح الوجه ولم تخفت فينا حماساته، رغم قسوة ظرف اليوم والدولاب الذي يدور. ذلك وجهكَ بصلابة تفاصيله إن ضحك وشعر بالقلق أو الترقُّب ولمس إنذاراً بأنّ غيماً مخيفاً سيملأ السماء، وأياماً قد تسودّ وقلوباً قد لا تعود صافية، فغلَّب الشجاعة على الخوف والكلمة على الظلمة، ليرحل بالجسد وتتجدّد في الأنفس ولادته مع كلّ حرّ يولد ويحلم ويتمرّد.
جبران تويني، مرّت أحد عشر عاماً، والقلب يدرك تحوُّل الخسارة مع الوقت درساً وعِبرة. تخفّ أوجاعها أو لعلّها تُصقَل وتتكثّف، فترينا الغائب ضحكات وطاقات وصيرورة زمن. أراكَ امتداداً أبدياً لنضال وصرخة وتحدٍّ، “محرّضاً” على هدم الخوف، وكم هو عميق ينمو ويلتهم أبداناً ضئيلة. وأراكَ نبضاً لا يتعب، وإن أُرسل إلى “الصمت” و”السكينة”، وهما صمت الجسد وسكينته فحسب، وراحته تحت ظلّ صفصاف أو فيء زهرة. هكذا يحلو تخيّله، تخيُّل استراحة عظماء النفوس والأجساد التي فدت.
الحرية حملٌ ثقيل قد تجعلنا تعساء داخل دوّامات الصراع والتناقض والكآبة، لكنّها ومضة محفِّزة على الارتقاء والاختلاف والانتصار للذات مهما طالت المعركة وأحرقت بالنار الروح. أن نكون أحراراً يعني أن نستعدّ لدفع ثمن باهظ قد يكلّف العمر كما كلّفكَ عمركَ.
حمّلتنا الاستعداد ورحلتَ، واحتمال أن تطاردنا الشدائد وتقسو المِحن. حصّنتنا بقدرة على التحمّل حتى آخر نَفَس ورفض الاستسلام والتبعية والتلويح بالراية البيضاء. أبقيت في العمق إحساساً بالفَقد، وهو ليس فقد الجسد وحده بل حضوركَ وتأثيركَ، بالحالمين، الثائرين، والموجوعين بالوطن والقضية والإنسانية.
لسنا بخير، وأنت عالِمٌ بلعنة الأيام حين تحلّ وتعصف، لكننا نأبى أن تودي بنا إلى الهلاك. لا مفرّ من أن يشملنا الزمن الصعب بصعوبته والظرف القاهر بقهره والاختناق بضغطه وشدّته، فنُصاب حيناً بالهَمّ والتساؤل والانتظار، لكننا مثل أشجار تعرّيها ريح باردة، فتدرّبها
على ترقُّب الشمس لتخضرّ وتؤكد رفض اليباس ورمال التصحُّر.
جبران تويني، أجدكَ أبعد من صحافي أكمل صناعة “النهار” صرحاً للفكر والصرخة والتجدُّد. وأبعد من اسم يرتبط بمكان عمل أوجد فيه يومياً. تمثّل جمالاً يرفرف على قمّة، أبلغه بالخيال الخلّاق والاستمرار. وإذ نخشى مزيداً من الهبّات، تُدخِل في النفوس التحمّل وتُخفِّف الثقلَ بقوّة الصبر والقلقَ برفض الإذعان والتخوّف من الغد بالاستعداد مهما كلّف.
لا تُكتَب أحزانٌ بعد أحد عشر عاماً رغم الجراح، بل اندفاعات وتعلُّم ووفاء لدماء أريقت فأشعلت قضية. قلبٌ صادق تُلهمه تحطيم أوجاعه والطيران في فضاءات صافية، يكتبُ الآن لكَ. قلبٌ تمنحه التوق إلى ما بعد النفق وإن طال وخَنَق. يراكَ بعمق، بحبٍّ، صورة بطل نرفض أن نيأس لئلا يستمتع المبغضون بقتله.
فاطمة عبدالله
النهار