تكون الرعية حتمية الوجود اذا سيست من راع، فتسميتها تأتي من الساهر على أمنها وراحتها وعلى إيصالها الى أرض فردوسية خضراء. كبر قطيع جدي، وكبر فرحه بمقدار الخوف الذي اعتراه عندما تساءل: أأستطيع أن أعطي الاهتمام للخراف الألف كالذي أعطيه للخراف الخمس مئة؟ احتار قلقاً لكثرة الأسئلة والأجوبة في رأسه، بان التعب على وجهه، تضاعفت ساعات عمله، وبلغ بالتفكير مدى بعيداً، فتساءل حائراً، أأبيع الزائد من الخراف وأعود الى ما كنت عليه من عدد؟ لكن الكتاب يقول: “لكني لا أريد ان أفصل الابنة عن أمها” (متى 35:10).
أاستعين بجاري وأبنائه ليعاونوني بالسيم مع القطيع؟ لكن الكتاب يقول: “وأما الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه لأنها لا تعرف صوت الغرباء” (يو 4:10).
أأستعين بأجير؟ لكن الكتاب يقول: “يرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف” (يو 12:10).
أأستعين بصالح؟ فالكتاب يقول “الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف” (يو 11:10) ولكن من أين لي بأجرته؟
جاء الجواب من حيث لا ينتظر، أنجبت كلبته تسعة جراء فأحالها لترعى القطيع معه، فالكلاب لا تريد أجراً، وليست بغريبة كونها تتربى مع الجداء، والصلاح فيها وفاؤها، كبرت الكلاب بكبر الثقة، تدرّبت حتى الشهادة، تمرست، تفاخرت، أصبحت له العون والسند، فزال قلقه ويأسه، والرعاة عشرة، وجدي الأصيل الاحد، وأصبحت رعاية الخراف الألف ممكنة بنظر جدي كالنصف!
يا لبراءة جدي الرائعة المجبولة الايمان، بالثقة وبالفرح لتصل ببساطتها الى اللاواقعية، ولا بد من التحذير على لاواقعيته، وهل يستطيع الحفيد نصح من تعلم منه لعقود؟ حاشا، لكن جدي لفيض محبته لم ينتبه لغريزة من أوكلهم، فداخلته بحسرة وخشع: أونسيت جدي بأن جيفة تلهي الكلاب، وقطة تشتتهم، تخرج القطيع الى المجهول فيترك الميدان مسرحاً للذئاب والبدع والاقتناص وتجعله فرقاً فرقاً، متناحرة متضاربة، منها من تتخذ من وشاحك ملجأ ومنها من يتهجم عليك، منها من يتوّج الكرّاز سيداً عليها ومنها من يهرب لراع آخر ليرى فيه الامن والسند، منها من يقول: “كما تكونوا يولّى عليكم”.. فيسمح للتيس بنطح الجداء وللكرّاز بأكل الحديثي الولادة، منهم من يحمل إسمك ترساً يخفي تحته ما سرق، نهب، أكل واغتصب، ومنهم من يشتري ظلماً بمالك ويرقص فوق جرح الحملان غطرسة، منهم من ينتظر موتك ليصبح المرجع والفاهم الأوحد الأحد، صدق الشاعر عندما قال:
“الأسدُ أسدٌ وان قلّت أناملهُ
والكلبُ كلبُ وإن طوّقته ذهباً
والحـرُ حـرٌ وان جار الـزمــان به
والعبدُ عبدُ وأن عليَت به الرتبا
سكت جدّي وتكلّمت دموعه. “من له أذنان للسمع فليسمع” (لوقا 8:8).
كاهن رعيتي القديس جاورجيوس – القرعون وجديتا
النهار