محمد ناصر الدين
«نادي كان في عنا ساحة نلعب فيها من زمان، ونادي كانت حول بيوتن حلوة أشجار الرمان»..
يعيدنا هذا المقطع من أغنية أحمد قعبور إلى زمن بعيد، زمن المتاريس في الثمانينيات، في منطقة الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت. لم تكن كتل الإسمنت قد اجتاحتها بعد، عشت طفولة ريفية بامتياز في البستان خلف البناية، الذي كنا نطلق عليه اسم «عودة الخليل». جدران مدخل البناية كان شاهداً على كل الأحزاب التي مرّت على هذه البقعة المشاغبة من منظمة التحرير الفلسطينية، الى منظمة العمل الشيوعي، فتيان علي، كتائب الحسين الانتحارية، منظمة ابو العباس، صور شهداء مجزرة حومين الذين «أعدموا بالرصاص من الخلف»، كما يقول الملصق المتخم بالروح الخمينية، لكن صورة وحيدة كانت بمثابة الأيقونة التي تحرس البناية وهي صورة عباس سلمان الشهيرة للأم وولدها والتذكرة اللبنانية القديمة، ديك السفير الليموني و «صوت الذين لا صوت لهم».
بدأت علاقتي بـ «السفير» من هذه الصورة التي كانت تستقبلني ذهاباً واياباً عند المدخل، ومن ذكرى شديدة الخصوصية: كنّا نصنع «الكلاشينات» الخشبية تيمّناً بمقاتلي الحرب، حين اصطادني جارنا الذي يعمل مصوّراً في «السفير» وطلب منّي الوقوف على المتراس وتوجيه الرشاش الذي يفوقني طولاً الى عين الرمانة وأغراني بعلبة عصير صغيرة من نوع «جوفيتا»، لتظهر صورتي في اليوم التالي في الجريدة كأحد أطفال المتاريس ما استوجب عقاباً ناعماً من أبي في المساء. تغيّرت الشياح من وقتها واجتاحها الإسمنت. زالت المتاريس. انتهت الحرب واختفت صورة عباس سلمان من المدخل، بقيت العلاقة مع «السفير» علاقة عاطفية مثل حبّ أول جميل، في منزل عشق الأب فيه جمع الكتب، والطوابع، وإرشيف الجريدة في كل محطة وطنية من التصدّي للاجتياح الإسرائيلي عام 1982، الى عدوانَيْ نيسان، وتحرير الجنوب، وحتى نصر تموز 2006.
ورثت العلاقة العاطفية مع «السفير» من أبي الذي مات مريضاً في الحرب الأخيرة، أبي الذي أعدّ أطروحته عن شعراء الجنوب: محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، محمد وحسن وعصام العبدالله وعباس بيضون وقد جمعته ببعضهم علاقات قربى وصداقة متينة، لأتعلّم منه أن أفتح الجريدة من المنتصف، في ملحقها الثقافي، حيث يكتب أبطاله المفضلون. عاش هؤلاء الشعراء بيننا عبر «السفير»، عرفنا أسماء حبيباتهم في القصائد، تفاصيل الحجارة والسماء والتراب في قراهم، أسماء الأنهار والسواقي من جبل الرفيع الى الدردارة الى بركة أيمن في زبقين. زيارتي الأولى الى «السفير» كانت بمبادرة من الصديقين الشاعرين عباس بيضون واسكندر حبش عام 2014، في ندوة مع الشعراء باسل الزين ومهدي منصور للتعرّف إلى الوجوه الجديدة في الشعر اللبناني ورحلة بحث عن أصوات بدت للوهلة الأولى قادمة الى بحر الشعر من روافد بعيدة، كالفيزياء والعلوم النظرية والهندسة. نصي الأول في السفير الثقافي حمل عنوان «لو كان الخوف غابة»: لم تكن صدفة أن أحمل بساتين طفولتي وخوف الطفل من الحرب الى قصيدتي الأولى المنشورة، نحن طفولتنا التي تراكمت وتمّ طلاء صورها بقسوة لتحضرني الصورة نفسها للأم والولد والديك كالأقانيم الثلاثة المقدسة. كتبت نصوصاً في «السفير» عن سعيد عقل، وإيف بونفوا، ومحمد علي شمس الدين، وميشيل ويلبيك وتشيزاري بافيزي وغيرهم ضمن مساحة تحترم التنوع، والانفتاح، والثقافة بكل أنواعها وبمحبة كبيرة، وتعرّفت إلى أصوات شعرية وروائية، أكنّ لها كل التقدير والاحترام. لا أتخيّل صباحاً بيروتياً بلا «السفير» وفيروز، كذلك يوم الجمعة، لن يكون الخوف فيه غابة، بل صحراء كانت «السفير» فيها والملحق، والثقافة، واحة للحب والشعر والكلمة. أنصب متراساً في ذاكرتي، بدلاً من الكلاشينكوف الخشبي أحمل «السفير» وأغني مع قعبور أغنية الوداع.
(شاعر لبناني)
الوسوم :جريدة بأزمان كثيرة