فبعد أن تلقى يسوع في الأردن “رسالته المسيحانية” لكي يحمل البشرى السارة للفقراء، يشفي القلوب المنكسرة ويبشر بالملكوت، قاد الروح يسوع إلى الصحراء.
وأشار كانتالامسا أن الكثير من الرجال والنساء اقتدوا بيسوع واختبروا الصحراء، ومن أشهرهم القديس أنطونوس الكبير أب الرهبان، ولكن – ذكر واعظ الدار الرسولية – “الدعوة لاتباع يسوع إلى الصحراء ليس موجهًا إلى الرهبان والنساك فقط. فبأشكال مختلفة، هذا النداء يُوجه إلى الجميع”. فالنساك اختاروا الصحراء كمكان إقامتهم. نحن نستطيع أن نختار الصحراء كوقتٍ نقيم فيه.
إن نداء القديس أغسطينوس في هذا الصدد جميل جدًا: “أدخلوا إلى قلوبكم! أين تريدون الذهاب بعيدًا عن ذواتكم؟ عودوا من تشردكم الذي جعلكم تضيعوا السبيل؛ عودوا إلى الرب. فهو حاضر. قبل كل شيء عد إلى قلبك، أنت التي أضحيت غريبًا عن نفسك، بسبب ضياعك في الخارج: لا تعرف ذاتك، وتبحث عن الذي خلقك؟! عد، عد إلى قلبك، تجرد عن الجسد… عد وَلُجَّ إلى قلبك: وهناك افحص ما تحدسه من الله، لأن صورة الله هناك؛ في قلب الإنسان يُقيم المسيح”.
القلب يمثل هنا “الموضع الميتافيزيقي الأعمق في الشخص البشري” هو “حميمية كل إنسان، حيث يعيش إنسانيته، أي كيانه الشخصي وعلاقته بالله”.
العودة إلى القلب تعني إذا العودة إلى ما هو أكثر شخصية وحميمية في ذاتها. وللأسف الحياة الداخلية هي قيمة تعيش أزمة حاليًا.
هناك “قصر داخلي” كما تعلمنا القديس تريزا الآفيلية، قصر نعيش فيه عمق الاتحاد الصوفي بالله، ولكن هناك أيضًا – وللأسف – قصر خارجي قد نضحي سجنائه ولا نستطيع الولوج إلى الداخل. كم من الأشخاص بيننا يجب أن يقوموا باعتراف القديس أغسطينوس الذي قال: “أحببتك متأخرًا أيها الجمال القديم والجديد، أحببتك متأخرًا. أنت كنت في داخلي وأنا كنت خارجًا. هناك كنت أبحث عنك… كنت معي ولكني لم أكن مع ذاتي”.
الحياة الداخلية هي السبيل إلى حياة أصيلة خالية من المرائية. تنبع من اللقاء مع الآب “في الخفية”.
وقد شدد الأب كانتالامسا على أن “من يحتاج للرجوع إلى الحياة الداخلية هم بشكل خاص الأشخاص المكرسون لخدمة الله”.
ولكن كيف يمكننا أن نجد ونحافظ على عادة الحياة الباطنية والداخلية العميقة؟
موسى كان رجلاً ذو نشاط كبير. ولكننا نقرأ عنه أنه أقام خيمة متنقلة كانت ترافقه في كل تنقلاته وكان يدخل إليها للحوار مع الرب. وهناك كان الرب يتكلم إلى موسى “وجهًا إلى وجه، مثلما يتكلم رجل مع آخر” (خر 33، 11).
ولكن هذا الأمر غير ممكن دائما، لا يمكننا أن ندخل دومًا إلى كنيسة أو إلى غرفة منعزلة للصلاة. لذا ينصحنا فرنسيس الأسيزي بما كان ينصح به تلاميذه: لدينا منسكة داخلية يمكننا أن نذهب إليها كل مرة نريد وقدر ما نريد، مثل النساك تمامًا. يقول فرنسيس: “أخونا الجسد هو المنسكة والنفس هي الناسك الذي يقيم في المنسكة لكي يصلي إلى الله ويتأمل”. وكأن لدينا صحراء تحت بيتنا وعلى مرمى حجر منا، لا بل بالحري في داخل بيتنا وفينا!!
د. روبير شعيب / زينيت