في عالم البشر هذا ، وقد انحصرَ في شبكة من العلامات والمعاني، فإنّ حضور المسيح الحقيقيّ في القربان المقدّس يجب أن يُحصَر بإعتباره حضورًا يُرسل اشارته إليّ ، ولإنّه كذلك فهو لا يكون حقيقيّا إلاّ بقدر ما أفهم المقصود منه .
الحضور الحقيقيّ يجبُ أن يُحصَر في إطار الإيمان ، أو في إطار ٍ شخصيّ ، على ألاّ يُخلَط بالوجود الطبيعيّ . إنّ الحضور الحقيقيّ ، هو تجسيد لوجود أكثر إتساعًا ، وجود عالميّ يقولُ لنا ، إنّ الربّ ليس الدائرة وحسب ، ولكنّه النقطة ، ليس المحيط فحسب ، ولكنّه المركز .
يرى العالم واللاهوتيّ تيلار دي شاردان ، أنّ التجسّد يبدأ مع الخلق ، وقد نميلُ كلّنا إلى الإعتقاد ، أنّ التجسّد قد تمّ حين حبلت العذراء مريم بالمسيح ؛ والواقع أنّ التجسّد هو حركة تبدأ في عمق المادّة الأصليّة . يقالُ أحيانا ؛ إنّ الأنبياء وإنتظار الشعب اليهوديّ قد أعدّو لهذا التجسّد ، وهذا غير صحيح … لإنّ التجسد قد بدأ من الذرّة الآولى (كما يقول الأب اليسوعيّ هنري بولاد ) .
يومًا ما ، تحقّق هذا الحضور الشائع والشامل في شكل بشر من لحم ودم – يسوع الناصريّ – لماذا هذا التجسّد ؟ هل كان ضروريّا ؟ نعم ! فلكي نفهمَ هذا الحضور في حقيقته الكاملة ، وفي كثافته ، كان يحتاجُ إلى التجسّد في شخص محسوس .
هل كانَ وجود يسوع هذا في الجسد حضورًا حقيقيّا لكلمة الله ؟ نعم ، ومع ذلك ، فإنّ هذا الجسد ، وهذا الوجه ، كانا تعبيرًا عن شيء أبعد وأعمق وأشدّ خصوصيّة ، وهو شخص بذاته .
الجسد ، يحقّق كياننا العميق في الزمان والمكان المحدّدين ، إلاّ أنه في الحقيقة ، ألا يفيضُ حضورنا عن أجسادنا ؛ أليسَ هذا ” الحضور ” غير قابل للقياس لهذه الحقيقة الطبيعيّة التي لا يمكنُ أن نراها أو نلمسها ؟ هل يمكنني أن أقول إنّي سجين هذا الجسد ؟ بالطبع ، فلا طريقة أخرى لديّ أظهرَ بها لنفسي أنّ هذا الجسد هو جسدي . ولكن هذا الجسد ، وهو يفسّر شخصي ، فإنّه يخونه في الوقت نفسه ، لإنه لا يُعبّر إلاّ عن جزء ٍ ضئيل ، لإنّ شخصي يفيضُ عن جسدي من النواحي كافة ، أو كما قال باسكال : “الإنسانُ يُجاوِز الإنسان بما لا نهاية ” .
تؤكّد الكنيسة ، أنّ القربان المقدّس هو سرّ حضور المسيح الحقيقيّ اليوم بالصفة نفسها ، كما كان جسده الطبيعيّ والتاريخيّ هو سرّ حضوره على الأرض منذ ألفي سنة . المسيحُ الذي جسّد حضوره في بدن ٍ من اللحم طوال الثلاث والثلاثين سنة التي عاشها على الأرض ، أرادَ أن يجسّد هذا الحضور نفسه لجميع الأجيال المقبلة ، وذلك في ” حقيقة ماديّة ” ، ولكنّها مختلفة عن حضوره الطبيعيّ العينيّ التاريخيّ . لذلك ، قدّم إلينا ( القربان – الإفخارستيّا ) .
” إنّ وجود الإنسان الصامت وهو في حالة عبادة ، يجيب على وجود الربّ الصامت أيضا في القربان ” .
Transsubstantiation ، تحوّل الجوهر ؛ حين حاولَ علماء اللاهوت في القرون الوسطى التعبير ، في عبارات فلسفيّة ، عمّا يحدث أثناء القدّاس ، لجأوا إلى هذه الكلمة الفنيّة . الخبز والخمر اللذين ليسا إلاّ طعامًا ماديّا ، أصبحا ، على أثر تقديسهما في القدّاس ، عاملين لوجود يسوع المسيح الحقيقيّ . لقد حدث تحوّل للجوهر ، تحوّل من جوهر إلى جوهر .
ليس أمامَنا سحرٌ أو آلاعيبُ مُهرّج كما في السيرك !. فإذا قمنا بتحليل كيمائيّ في المعمل للخبز والخمر ، قبلَ التقديس وبعده ، سنجدُ أنّها ذاتها الخبز والخمر (نحنُ هنا لا نتكلّم عن الأعاجيب التي حصلت وتحصل كما في أعجوبة لوتشانو في إيطاليا ) . فالمادّة التي يتكوّنان منها ، في بنائها الذريّ أو الجزئيّ ، هي ذاتها قبل التقديس وبعده ؛ لإنّ الطبيعيّ والكيمائيّ ليسا على مستوى المادّة ، بل هما على مستوى الأحداث . هذا إذا استعملنا في الشرح ، الطريقة الفلسفيّة التقليديّة الخاصّة .
حبيبان يتنزّهان في حديقة ، وإذا بالفتاة تقطفُ زهرة وتقدّمها إلى حبيبها . هذه الزهرة تتوقّف فجأة عن كونها مجرّد زهرة لتصبح ” رسالة ” و ” علامة ” و ” تعبيرًا ” عن حبّ الفتاة . فحين قطفت الفتاةُ الزهرة ، وحين قدّمتها ؛ فقد غيّرت من معناها ومن القصد ، وبالتالي ، من الجوهر .
في حالة القربان المقدّس ، الخبز والخمر لم يكن لهما أيّ معنى بخلاف أنّهما طعامٌ عاديّ ، وأصبحا بحسب نيّة المسيح – أو الكاهن – جسدُ المسيح ودمه ، حاملَين حضوره ، تغيّر المعنى والقصد . هذه النظرة تُجنّبنا الوقوع في مذهب السحر والأسطوريّة ، فكلّ شيء في الإفخارستيّا تمّ على مستوى القصديّة والمعنى . الإيمانُ ، هو المطلوب في تناولنا لجسد الربّ .
قدّم الأب إيف دو مونشوفيل ، في مقال مهمّ عن القربان مثالَ الفأر وهو يقرض القربان المقدّس بعد تقديسه ، وبيّن أنه من الغباء الإعتقاد أنّ هذا الفأر كان ” يتناول جسد المسيح ” ! .
تؤمن الكنيسة بــ ” التحوّل الجوهريّ ” ، ولا تؤمنُ بــ” الإستبدال ” .
زينيت