كرمت جامعة الحكمة وجمعية “لقاء العمرين” متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما المطران جورج خضر، بدعوة من رئيس الجامعة المونسينيور كميل مبارك في قاعة الإحتفالات الكبرى في الصرح الرئيسي للجامعة في فرن الشباك.
شارك في الحفل نائب رئيس مجلس النواب سابقا ايلي الفرزلي ورئيس أساقفة بيروت ولي الحكمة المطران بولس مطر، وحضره النائب نضال طعمه ممثلا الرئيس سعد الحريري المطران بولس صياح ممثلا البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي والمطران كوستا كيال ممثلا بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي، والنواب: الدكتور ناجي غاريوس وغسان مخيبر وحكمت ديب، ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد ووزراء ونواب سابقون ونقيب محرري الصحافة اللبنانية الياس عون والأمين العام للجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي محمد السماك ورئيس الصندوق الوطني للمهجرين العميد نقولا الهبر وممثلو الهيئات العسكرية والأمنية وفاعليات روحية وسياسية وحزبية واجتماعية واقتصادية وتربوية ونقابية.
مبارك
النشيد الوطني افتتاحا، ثم تحدث رئيس الجامعة، فقال: “عندما قررنا ان نكرم شخصيات لامعة، قلنا: اذا الرب أكرمهم، فما هو الذي سنزيده نحن عليهم بتكريمهم؟ أحببنا المطران خضر مطرانا وأحببناه كاهنا ومثقفا ومربيا، وأحببناه رجل المنطق، وهو يستطيع بكلماته وكتاباته ان يقنعك بما ليس هو مقتنع به”.
وقدم مبارك، للمحتفى به، يحيط به أعضاء جمعية “لقاء العمرين”، درعا تقديرية وكتابا باللغة الفرنسية.
الفرزلي
وتحدث الفرزلي عن مسيرة المكرم، فقال: “أن تكرم جامعة الحكمة، وعلى رأسها اللاهوتي والشاعر الكبير قدس المونسنيور كميل مبارك، ملفانا من ملافنة الكنيسة الشرقية هو الحبر الجليل المطران جورج خضر، حدث بحجم لبنان الرسالة، في الإيمان والرجاء والمحبة، ثالوث المسيحية، وبسائر الفضائل إختراق الذات الفردية إلى الذات النوعية، بل إلى ذات المسيح الكونية الماثلة في الثالوث.ألم يقل مطراننا الجليل جورج خضر: “إن المسيح عرفني إلى الله”؟ والمسيحية المشرقية المشرقية لها الباع الطولى في إغناء كلمة المتجسد ونشرها بين الأمم. والمارونية عنوان المسيحية المتأنسنة تؤثر في شرق وغرب بمسحة مشرقية صافية وتماه بين الدين والوطن والقيم”.
أضاف: “لغة سيدنا خضر شعرية صافية حتى قيل: “…بحق يكتب اللاهوت شعرا”. إنه كان وما زال يعمل لقيامة فلسطين واسترجاع القدس، وقد آلمه تقاعس العرب عن أداء دورهم المنشود.
أقيمت للمحتفى به حفلات تكريم، وقيل فيه كلام إنحاز عن سائر الكلام، منه ب”عاشق المسيح حتى الثمالة”. وقيل: “تكتب ذاتك فيه، أو تكتبه فيك”. هذا الرجل كتاب، فهل هو نص؟ بل هو نص ضد النص، تقرأه قراءة جديدة كل يوم من دون أن تكون القراءة التالية نقضا للأولى، أي أنه مساحة للتأويل. أليس هو القائل: “عليك أن ترتقي بمسيحيتك إلى مستوى الحب”. وقد سمي “ناسك الكلمة ورسولها المتصوف في مناسكها”.
الشكر الكبير أقدمه إلى لاهوتي وشاعر كبير، هو المونسنيور كميل مبارك الذي وفر لنا أن نتحلق حول المطران الجليل جورج خضر الذي تميز عمن عداه فكرا وعمقا ونبرة”.
ولفت الفرزلي إلى أن المطران خضر “من طرابلس حيث رأى النور ونشأ، الى حواضر لبنان والشرق والغرب، من راهب وشماس الى أرشمندريت الى مطران ودكتور في اللاهوت، كان يؤسس حركات الشبيبة، وتربع عضوا على سدة مجلس الكنائس العالمي، الى استاذ في الجامعة اللبنانية ومساهم في الحوار الاسلامي المسيحي منذ 1969”.
وأدت الفنانة رونزا ترنيمة من كلمات المطران جورج خضر وألحان سمير طنب.
المطران مطر
أما المطران مطر فقال في كلمته: “كنا مع سيادته في لقاء رفيع إلى مائدة البابا القديس يوحنا بولس الثاني، أساقفة مشاركين أثناء انعقاد السينودس الروماني من أجل لبنان. وبعد أن تداولنا الأحاديث اللاهوتية والمسكونية وما يتعلق منها بالحوار المسيحي- الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط، ما كان من قداسته عند توديعه ضيوف تلك العشية إلا أن توجه من سيادة المطران جورج خضر بكلمة شرفتنا جميعا وأثلجت قلوبنا حين سمعناه يقول: “يا صاحب السيادة لقد تعلمت منك الكثير، في هذا المساء”.
هذا هو المطران جورج خضر، معلم الكنيسة، والرائي لوجه ربه الذي ما التمس في الدنيا وجها سواه، فأحب فيه وجوه الناس جميعا، أولئك الذين صورهم ربهم في البدء على مثاله والذين رد إليهم بهاء نفوسهم متخطيا معهم وبغير قياس كل بدل عن ضائع. ولقد تابعته منذ شلح الرب علي نعمة الكهنوت والأسقفية لخمسين سنة خلت. وقرأته بشغف كلما سنحت لي فرصة التمتع بقراءته، الغوص في عطايا قلمه، تعبيرا وعبارات. كما قيض لي أن أرافقه بعض مشوار العمر، في جلسات وفي ندوات وفي مؤتمرات، وهو يكشف كلما تكلم عن سعة فكر حلق فيه نحو العلى، وعن معرفة لاهوتية وناسوتية قل نظيرها في هذا الشرق ومن زمن بعيد”.
أضاف: “رائعا كان المطران خضر ويبقى في اندراجه اللاهوتي الكامل، أي القائم في مزيج من فكر ومن عمل. فهو الغائص أولا في أسرار الإيمان، تلك التي صيرته علامة بأمور الدين، والمذكر نهجا بما ذهب إليه المعلم أفلاطون حين أكد أن العلم لدى بلوغه القمة يتحول إلى رؤيا وإلى شعر. وهو المنطلق من اللاهوت الأرثوذكسي العريق الذي يواكبه وحي الروح أكثر مما تنتجه صناعة العقل. ألم يتلمس بدوره أيضا توما الأكويني هذه القاعدة بما اعتاده من صلاة ومن مناجاة لربه قبل أي سعي من إيمانه نحو الإدراك البشري؟ لكن سيادته لم يتعاط اللاهوت من أجل ذاته وحسب. بل عمل بموجب وكالة سلم معها أسرار الله لينقلها إلى البشر فيحيا منها ويسعد المؤمنون. ومنذ أن شغف شابا بيسوع المسيح وتسلم الكهنوت نعمة ورسالة إلهيتين، أحب الشباب وأسس لهم حركة ما زالت إلى اليوم محور التجدد في كنيستهم، على أن يبقى تجددا في الأصالة ومن الأصالة. كذا هي كنيسة المسيح. إنها في العالم دون أن تكون من العالم، وإلا لما بقيت له علامة خلاص ووسيلة تسام روحي وارتقاء”.
وتابع مطر: “إنها مناسبة لنشيد فيها بالمسيحية المشرقية ذات التقليد البيزنطي، التي لا تتوانى عن التذكير بأن محبة العالم ليست غرقا فيه ولا حتى خدمة لأهدافه الإنسانية ولو كبيرة، بل هي دعوة لهذا العالم أن يعتنق جوهر الملكوت. لذلك فإن لعبة هذا العالم لم تستهو يوما المطران جورج خضر. فهو ينظر إلى الدنيا من منظار الله، يحبها حتى الفداء، يسهر على حاجاتها الروحية والمادية ما دام الروح لها البداية والنهاية. وهو يحملها في حركة صاعدة إلى أن تتحول مثل الخبز إلى جسد المسيح. إنه صنو الأنبياء وهذه دعوتهم في الأساس، أن يعكسوا أنوار الله على الدروب كلها فيسير الجميع في النور، ويباد من عيونهم كل ظلام”.
وإذ لفت الى ان “الكنيسة هي شعب الله السائر في العالم الراهن إلى اكتمال حقيقته في الملكوت، إنها نظرة روحية إلى الكنيسة قبل كل شيء”، رأى أن “كل ما هو روحي يحاكي تطلعات المطران خضر إلى جوهر الأمور”.
وقال: “لقد دخل سيادته بقوة إلى العمل المسكوني وهو لا يزال فيه رائدا على أساس الحقيقة مهما كانت صعبة وليس على أساس التأقلم مع ظروف لا تمت إلى جوهر الكنيسة بصلة. المسكونية ليست تجمعا للمسيحيين ولو في سبيل شهادة أصدق للإنجيل. فالتجمع غير الوحدة. والوحدة غير الاندماج في قوالب بشرية وقانونية يتخطاها روح الإنجيل. من هنا الإقرار أن فضل الكنيسة الأرثوذكسية على السير في طريق الوحدة كبير وكبير جدا. ونحن بعودتنا جميعا إلى ينابيع الإيمان نتنبه إلى أن الكنيسة هي في سفر الرؤيا “كنائس سبع”، وإلى ليتورجيات عديدة ظهرت منذ القرن الأول وتمحورت حول تقاليد كل من روما وإنطاكية والإسكندرية. فالكنيسة واحدة برأسها وبجوهر إيمانها، إنما هي كنيسة تتجسد في كل مكان من أمكنة الدنيا وتتبنى تقاليد ثقافية متنوعة، فيحملها الإيمان الواحد والقربان الواحد إلى شراكة كاملة بين أبنائها جميعا. لهذا يؤكد سيادة المطران خضر حقيقة أن الكنيسة هي محلية مثلما هي جامعة”.
أضاف: “عمل المطران خضر كما لم يعمل أحد أكثر منه تثبيتا للعروبة الحضارية وللمشاركين بين أهل الشرق بكل أطيافهم في صنع الكيان الواحد والمصير الواحد. وإذا ما نظرنا إلى الحالة التي وصل الشرق إليها في يومنا هذا، فإننا سنندم على أية فرصة ضاعت من بني جيلنا أو تكاد تضيع، فإلى اليقظة نحن مدعوون جميعا”.
وتابع: “لقد رفض المطران خضر أن تتقوقع المسيحية ضمن شرنقة تفصل أبناءها عن الآخرين. وما أراد البتة أن يغرق دينه في دنياه بل تاق بكل جد إلى أن تستقي الدنيا من منابع الدين فتكسب الدنيا والدين معا وإلى ما شاء الله”.
المطران خضر
كلمة الختام كانت للمحتفى به، قال فيها: “يقول الروح والعروس: “تعال” والروح يزوجنا للمسيح الذي له وحده الإكرام والسجود. أنتم أردتم تكريم مخلوق لظنكم ان نعمة الله انسكبت عليه واللحم والدم لا يكرمان. أعود اليكم اذا بالحب الذي أحببتم به ربكم في هذا الاحتفال الذي شئتموه. نحن في اجتماع شكر لله وحده بعد ان أعطانا ما أعطى فإنه المبتدأ والمنتهى حتى نتوب. شئتم ان تلتمسوا الله بتكريمكم إنسانا. هذا جائز على ان تتخطوا من تكرمونه لأنكم رأيتم على وجهه ما يذكركم بالرب.
المحبة هي انسكاب الله في الإنسان. الرب دائما ينزل إلينا لنستطيع نحن ان نعلو إليه. وأنتم تلتمسون الله في الإنسان لأنكم لا ترون هذا في لحمه ودمه ولكن تشاهدون النعمة التي نزلت عليه. الإنسان الآخر محل لقائكم بالله. فإذا نظرتم إلى أخ لكم ووقفتم عنده ولم تشاهدوا الرب على وجهه تكونون عبدتم مخلوقا. وإذا رأيتم على وجهه جمالا اصعدوا توا إلى الله. انه وحده المعطي”.
أضاف: “جئتم لتقولوا مودتكم لإنسان حسبتموه حبيب الله ولولا ذلك لما كان لقاء. في رؤية الله اجتمعنا اليوم ليقول كل منا محبته للآخر بعد أن نكون تلونا قراءة الله لنا. هذه وحدها تجعلنا نخرج من اميتنا وتفصلنا عن التجمهر لنسكن فوق حيث الرؤية. الدنيا قراءة المحبات أو ليست بشيء. كل كلام ان لم ينزل من الله ليس لنا. والله يريد لساننا لتبليغ كلامه. ونروم فهم مقاصده إذا تكلم الأبرار. عقولكم ان لم تعبر عن عقله لا تنقل الا بشرتكم في هزالتها. وأنتم مهمتكم أن تتولوا نقل الحق. هذه وحدها بلاغتكم.
مروا بالإنسان، لا تقفوا عنده. هو فقط طريق. ليس مقصدا وإذا لم تجدوا في من تكرمون عطاء إلهيا لا يكون استحق التكريم. لا تعظموا أحدا خوفا من ان يعبد نفسه أو ان يعبده الناس”.
وتابع خضر: “ما أعطينا ان نراه ان الإنسان الآخر ملتقانا مع الله. المؤمن يراه في كل جمال وفي كل حق ولكن المهم في رؤيتنا أي إنسان ان نسعى إلى الله الساكن فيه. الغرض من كل ذلك ان تمر بالإنسان لترى وجه ربك. وهذا في المسيحية أساسي بسبب من قوله: “الله صار جسدا وأقام فينا”. والحركة فيك هي من كيانك البشري القائم على الأرض إلى وجه الله المتسامي أبدا. أنتم ما استوقفكم من تكرمون الا لأنكم حسبتم ان لمسة إلهية نزلت عليه. ان الإنسان تراب وأنتم تتجاوزون التراب بالرؤية. ليس التحرك في الناسوت الا للاهوت والا بقينا سجناء ترابيتنا. إذا نظرتم إلى وجه ولم تقرأوا الله فيه تكونون مصرين على ملازمة هذه الدنيا. ولكنكم بما أوحي اليكم انتقلتم إلى فوق.
لكم ان تحبوا من حسبتم انه سلك مسلك القديسين ومن لم يكن على القداسة تدفعونه إليها. لولا بغية القداسة يكون اجتماعكم تجمهرا. نحن المؤمنين نبتغي فكر الأبرار. هو مضمون عقلنا. والثقافة زينته لأنه لا بد من التبليغ. هناك من كان بليغا ولم يكتب حرفا. جمع القداسة في ذاته ووزعها وكانت قلوب. من كتب القلوب لا يحتاج إلى قلم. عيشوا الناس في قلوبكم وحسبهم. تذهب الدنيا ولا تذهبون ان حييتم في المحبة.
هذه لا تحتاج إلى لغة أخرى لأنها هي اللغة، هي التواصل والإقامة في الوصل. أحبوا الناس ولا تسألوا عن جواب لهم. محبتكم كاملة بذاتها لأنها تؤسس المحب والمحبوب معا. كل ما جاء تنظيما أو سياسة أو لغة ليس بشيء ان لم يأت فيضا من حب والباقي تعابير. أحبوا ولا تسألوا عما إذا قبل شيء منكم. أعطوا مجانا، كفاكم عطاؤكم تعزية. أنتم فقراء ان لم تعطوا كل شيء”.
وختم: “ماذا يعني ان نقترن بالله؟ انه الإيمان بأننا قادرون بنعمته ان نصعد اليه، ان نساكنه بل ان نسكن فيه. فكما صرنا بيته بالتجسد صار هو بيتنا بصعودنا اليه. نحن بتنا هنا بيته بروحه وهذا منه نزول. ذلك ان القصة كلها “ان احدا لم يصعد إلى السماء الا الذي نزل من السماء”. وهذا القول الذي ينطبق على المسيح ينطبق علينا لأننا بالنعمة نأتي من فوق وبالنعمة نصعد إلى فوق. الحركة كلها حركة إلهية في داخلنا”.
وطنية