مقدّمة
ألقت الكنيسة الكاثوليكيّة لربع قرن خلا، من خلال الإرشادات والوثائق الكنسيّة، نظرة شاملة وواضحة على الأسباب والنتائج الناجمة عن الواقع المؤلم التي تعيشه العائلة. وهي تعلم أنَّ هناك ثقافات ونظريات، تحاول بعضها للأسف تشويه رسالة الكنيسة. فالعلمنة تميل إلى تثبِيتَ قيَّم إنسانيّة لمؤسّسة العائلة وتمييزها عن القيم الدينيّة واستقلاليّتها الكاملة عن الرب. علاوة على ذلك، هناك الأوضاع الاقتصادية والسيكوإجتماعية التي على ضوء تقدّم العلوم الأنتروبولوجيّة والاجتماعية والنفسيّة تحاول التأثير في طبيعة الإنسان البشريّ في بعث اضطرابات ذهنيّة وعاطفيّة أو ضغوطات على الأسرة لتشويه المؤسّسة الزوجيّة[1]. أو ظهور الثورة الجنسيّة التي جعلت من الجنس مادة استهلاكية تتغلّب فيه الأنانية والنرجسيّة على المحبّة الحقيقيّة. فهذه موجة من التيارات ليست بمقصورة على ما يسمى بالمجتمعات المتحضرة، بل إنّها تحدث في كل مجتمع وتصيب مختلف الطبقات الاجتماعية، وخصوصاً تلك المجتمعات التي مازال يعوزها التطور الاقتصادي والتي ينخفض فيها مستوى معيشة الفرد إلى حد الجوع المزمن، فيعمد الشخص إلى تأمين أساسيات الحياة ويؤجل حاجته إلى الكمال من القيم و المبادىء.
الأزمة الحالية التي تعيشها العائلة، هي متجسّدة في النظرية الذاتية التي تنظر إلى الزواج من وجهة نظر الأنا المركزية بشكل أساسي؛ الإنسان يفكّر بأنّه يجب أن لا يعطي، لكن يقبل، وأنه يجب أن يمتلك الآخر لسعادته الخاصة. وعندما يستمر المتعاقدان أو أحدهما، تحت علامة الزواجيّة التي أعلناها بحرية بأن ينتميا، كونهما رجلا أو إمرأة، فقط إلى ذاتهما، محتفظين بشكل إرادي على السيادة الخاصّة بالذات وبالحياة المسقبلية الخاصة، فأنّ كلّ واحد منهما يفعل ما يرضيه أو ما يقتنع به، ولكن ليست بحقوق وواجبات مشتركة. فهذه التصرّفات تنقص الوثاق الزواجيّ الذي يقوم على حقيقة العطاء والقبول الزواجيّ. اليوم نواجه عقلية التطليق التي لا تتوقّف على ما يسمّى الطلاق كدواء، لكن تقوم على رفض بأن الإنسان يستطيع أن يعطي ذاته، من خلال التزامه في ميثاق غير قابل للانحلال. وهذا ما دفع الكثير من المسيحيين أن يتأثروا بها ويلجأوا إلى الطلاق.
أمام هذه الثقافات والنظريات وجدت السلطة الكنسيّة الكاثوليكيّة، من واجبها الرعويّ أن تعبّر عن تعاليمها وقوانينها للدفاع عن قيمة الزواج، عندما تكون أمام سلوك ظاهري ” واضح بشكل خطير وضد بشكل ثابت للنظام الأخلاقي”. فالكنيسة تنظر إلى الطلاق على أنّه صفة اللاأخلاقية، يتاقض مع طبيعة الزواجيّة السّريّة ومع مبدأ “ما جمعه الله لا يفرقه الإنسان” الذي يهدف إلى حلّ رباط “زواج قائم”. وما ينجم عن الطلاق بلبلة تدخل في الخليّة العائليّة وفي المجتمع، تستتبع أضراراً جسيمة: جروحات عند الشريكين وآلاماً عند الأولاد، إذ يبقون “أولاد مطلقين”، وتأرجحهم غالباً بين الزوجين، وبسبب تأثيره الذي يجعل منه عدوى وآفةً اجتماعيّة حقيقيّة[2].
[1] راجع البابا يوحنا بولس الثاني، ارشاد رسولي إلى الأساقفة و الكهنة و مؤمني الكنيسة الكاثوليكية جمعاء في وظائف العائلة المسيحيّة في العالم اليوم. عدد 4. [2] راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 2385.