من المقرر إعادة افتتاح حديقة الصنائع برعاية رسمية وبلدية في 31 أيار الجاري. لهذه المناسبة خصّنا الدكتور حسان حلاق بدراسة تاريخية عن حديقة الصنائع وتاريخيتها وملكيتها لغاية افتتاحها نهاية الشهر.
كانت بيروت المحروسة تتميز بكثافة سكانية ضمن السور الشهير، يتضمنه سبعة أبواب تقفل عند المغيب باستثناء باب السرايا الذي كان يقفل عند العشاء. وبعد تكاثر البيارتة بدأ السكان ينطلقون من باطن بيروت شرقاً باتجاه الجميزة والمدور والأشرفية والمرفأ، وجنوباً باتجاه الباشورة والبسطة التحتا والبسطة الفوقا وبرج أبي حيدر والمصيطبة والنويري وما يجاورها من مناطق رأس النبع، وصولاً إلى مزرعة العرب والطريق الجديدة، وشمالاً باتجاه الخضر وبرج حمود، وغرباً باتجاه زقاق البلاط، والقنطاري ومحلة الرمال ورأس بيروت والحمراء وقريطم.
كانت محلة الرمال (الصنائع في ما بعد) تتميز بكثرة الرمال والصخور ومقالع الصخور التي كانت تستخدم في بناء بيوت البيارتة من الحجر الرملي والتي تنقل على الدواب من منطقة إلى أخرى. واستقطبت بعض العائلات البيروتية القديمة في مقدمها آل الظريف، فأطلق على تلك المنطقة اسم “رمل الظريف”، واستقطبت المنطقة المحاذية لها عائلة زيدان، فعرفت المنطقة باسم “رمل الزيدانية”.
ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لاسيما في آخر القرن، بدأ البيارتة يتزايدون تباعاً في حي الرمال، فتكاثرت المساجد والمدارس في مختلف المناطق البيروتية خارج السور.
كان السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) يكن المودة والمحبة والاحترام للبيارتة من جميع الطوائف، وكان يوعز لولاة بيروت المحروسة باستمرار الاهتمام بهم وبشؤونهم وتطوير المحروسة والعمل على تلبية متطلبات سكانها. ولما كانت المؤسسات التربوية الأجنبية تكاثرت في بيروت والمناطق اللبنانية، لذا بادر والي بيروت إبرهيم خليل باشا الشهير بالوالي خليل باشا (والي بيروت بين أعوام 1904-1908)، وبالتنسيق مع المؤسسات الرسمية وبلدية بيروت الى إقامة معهد لتعليم البيارتة المهن والحرف والصناعات والموسيقى واللغات، ومسك الدفاتر والمحاسبة وأصول التجارة، فتم اختيار بعض الأراضي في منطقة “حي الرمال” لبعض العائلات البيروتية منها آل الحص وطبارة وطيارة وسواهم من الأسر البيروتية. وكان من المقرر إِقامة خستة خانة (مستشفى) وجامع. وعرفت هذه المؤسسات باسم “مكتب الصنائع والتجارة الحميدي” (مكتب أو مكتبي باللغة العثمانية تعني مدرسة).
بني المشروع على مساحة من الأراضي الخاصة والأوقاف الذرية والأهلية، قدرت بحوالى مئتي ألف ذراع مربع لاستيعاب ستمئة تلميذ، اقتطع منها (35.842) ذراعاً لحديقة الصنائع التي افتتحت عام 1907 بوضع والي بيروت خليل باشا وصحبه غرسة من شجر الصفصاف، إيذاناً بافتتاح الحديقة متنفساً للأساتذة والطلاب وللبيارتة عامة.
البلدية تعوض على آل الحص
ومن الأهمية القول ان بعض أراضي حديقة الصنائع و”مكتب الصنائع والتجارة الحميدي” والشوارع المحيطة به قدمت تبرعاً من آل طبارة وبعض العائلات البيروتية، في حين أن الأراضي الأخرى وضع والي بيروت خليل باشا يده عليها، ولم تسدد الدولة العثمانية أثمانها لأصحابها، ومن بينها عقارات لآل طبارة ولآل الحص وآل طيارة وسيور، لذا قامت بلدية بيروت بتسديد ثمنها عام 1925.
ومن المعروف أن مكتب الصنائع والتجارة الحميدي في منطقة الصنائع، افتتح في العهد العثماني، وهو اليوم مقر وزارة الداخلية والمكتبة الوطنية، وقد شغلته لسنوات خلت كلية الحقوق والعلوم السياسية (الجامعة اللبنانية) ورئاسة مجلس الوزراء لسنوات مضت.
ملك الدولة وليس البلدية
ان وثائق ومحاضر سجلات مجلس بلدية بيروت المحروسة، والإفادات العقارية الصادرة عن المديرية العامة للشؤون العقارية تبين أن حديقة الصنائع المعروفة في العهد العثماني باسم “حديقة مكتب الصنائع والتجارة الحميدي” (رقم العقار 2003 – المصيطبة) ليست ملكاً للبلدية، بل ملك الدولة اللبنانية، كما كانت في العهد العثماني، وما يؤكد ذلك، أن الوثائق تكشف عن عقد إيجار بين البلدية والحكومة بتاريخ 15 شباط سنة 1928.
كما انه استناداً إلى قانون البلديات الصادر في العهد العثماني، والمعدل مرات عدة في عهود الانتداب والاستقلال، فإن مسؤولية إدارة الحدائق العامة تعود للبلديات مباشرة.
ورغم أن الحدائق العامة في بيروت المحروسة كانت ولا تزال من صلب اهتمامات بلدية بيروت وصلاحياتها، غير أن واقع حديقة الصنائع ومنذ افتتاحها عام 1907، كان لها وضع خاص. لذلك، تؤكد الوثائق البلدية والعقارية والمالية والحكومية ومحاضر جلسات مجلس بلدية بيروت ووثائق الدوائر العقارية والمالية أن “حديقة الصنائع” كانت منذ نشأتها تابعة للسلطات الحكومية الرسمية وليس لبلدية بيروت، بسبب الوضع الخاص لعقارات هذه الحديقة التابعة للحكومة العثمانية والتي أقيمت تكريماً وتقديراً للسلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909). لذلك استمرت مسؤولية ملكيتها وإدارتها للحكومات اللبنانية التي قامت بتأجيرها لبلدية بيروت – كما سبق أن أشرنا – لتقوم البلدية بإدارتها خدمة للبيارتة ولروادها، استناداً إلى حق انتفاع وارتفاق تخطيط لمصلحة الأملاك العامة البلدية الصادر في 15/6/1936، بحيث انتهت العلاقة بينهما كمؤجر ومستأجر، وباتت بلدية بيروت قيّمة مباشرة على “حديقة الصنائع” بل ومالكة لها على غرار جميع الحدائق البيروتية.
وثائق عن عقار الحديقة
بعد تكليفي الأخ والصديق مختار المزرعة سليم المدهون بتقديم طلب إلى أمانة السجل العقاري في بيروت رقم 5088 للحصول على إفادة عقارية استناداً إلى قيود السجل العقاري للعقار (2003-المصيطبة) (عقار حديقة الصنائع – مساحة العقار (21.894م2) فقد تم الحصول على الإفادة العقارية بتاريخ 23/7/2013. وتبين الآتي:
وصف العقار: جنينة محتوية على بركتين وغرفتين من حجر السكن.
نوع العقار: أرض مبنية.
حق انتفاع وارتفاق: ارتفاق تخطيط لمصلحة الأملاك العامة البلدية.
الرقم والتاريخ: 2474 تاريخ 15/6/1936.
الملكية: أساس الملكية (ملكية، تصرف، قرار قاضٍ) الملكية بموجب قرار القاضي العقاري رقم (2474) 15 حزيران 1936 والمالك دولة الجمهورية اللبنانية (ملك)، (2400) سهم.
وفي وثيقة الشروحات والملاحظات والحواشي ومحضر التحديد عام 1936، تبين وجود دعوى ضد المالك وهو الجمهورية اللبنانية، وبعدما تم تحديد جغرافية العقار الرقم 2003 كالآتي: جنوباً طريق خليل باشا (والي بيروت في العهد العثماني) وشرقاً طريق عام، وشمالاً طريق مكتب الصنائع وغرباً طريق عام، وتفصيل بيان الحجج والسندات بسند طابو رقم (150) بتاريخ كانون الأول عام 1925، وجاء في بيان المنازعات والإدعاءات ما يأتي: “إن ورثة انطون يوسف سيّور هم على اختلاف في ما بينهم وبين الجمهورية اللبنانية على هذه القطعة”.
أما تفاصيل الدعوى، فجاء في مضمونها أن ورثة انطون يوسف سيور أولاده وهم: ميشال، واليس، وروز وماري سبق أن حصلوا على رخصة من حاكم لبنان الكبير في 20 تشرين الأول عام 1924 عدد (6886) وقدموا بموجبها إلى لجنة التحديد والمساحة الرابعة في بيروت استدعاء مؤرخاً في 23 كانون الأول عام 1927 ضد الدولة اللبنانية بصفة مدعى عليها، والحكم بمنعها من معارضتهم في ملكية العقار المذكور، وطالبوا بتسجيله على أسمائهم وفقاً لسند الطابو بتاريخ تشرين الأول 1294-1875م عدد (17)، واستناداً للأحكام الصادرة من ديوان التمييز في ولاية بيروت بتاريخ 19 آذار 1295-1876م، ومن محكمة الحقوق البدائية في شباط 1329-1908م عدد (129)، ومن محكمة الحقوق الاستئنافية في 26 تموز 1329-1908 عدد (15). كما تكشف هذه الدعوى بعض الأسرار الجديدة مؤداها أنه بعد جلسات ومرافعات عديدة تقدم هورشت ڤنبر الألماني التابعية بمذكرة مؤرخة في 22 أيار عام 1929 طالباً قبوله كشخص ثالث في الدعوى بداعي أن كامل العقار اتصل إليه بالشراء من ورثة سيّور بموجب اتفاق معقود بينه وبين الورثة المذكورين مصدّق لدى كاتب عدل مدينة ورستد في ألمانيا بتاريخ 19 تشرين الأول عام 1919 تنازل بموجبه الورثة له عن جميع أملاكهم المنازع فيها في بيروت وسوريا وفلسطين.
وتبين أن اللجنة الرابعة أمهلت هورشت ڤنبر لمراجعة محكمة البداية المختلطة، فأبرز لها بياناً مؤرخاً في أول آب عام 1929 يظهر فيه أنه أقام الدعوى لدى المحكمة المختلطة المومأ إليها في 23 تموز عام 1929 على ورثة سيّور والحكومة اللبنانية.
… وفي قرار المحكمة ان ملكية عقار حديقة الصنائع كان للسيد أنطون سيّور منذ العهد العثماني إلى سنوات من الانتداب الفرنسي، ثم لورثته الذين باعوا هذا العقار أثناء إقامتهم في ألمانيا عام 1919 للألماني هورشت ڤنبر، والذي أَقام بدوره دعوى على الجمهورية اللبنانية لاسترداد العقار، غير أنه تبين من خلال مطالعة قاضي المحكمة الثانية في بيروت أن الحكم القضائي لم يتضمن نفياً بأن العقار ليس ملكاً لورثة أنطون سيّور، وإنما آلت ملكيته إلى الجمهورية اللبنانية لسبب وحيد، وهو أن الورثة وهورشت ڤنبر لم يتقدموا بعد خمس سنوات ونيف على دعوتهم بأية مراجعة أو اعتراض، واستناداً إلى القوانين المرعية الإجراء، فقد آلت الأرض وجميع العقار إلى دولة الجمهورية اللبنانية.
قرار التأهيل والترميم
لا بد من الإشارة إلى أن “السبيل الحميدي” الذي وضع في الجهة الشمالية الشرقية لحديقة الصنائع قد تعرض لأضرار كثيرة في فترة الحرب الأهلية (1975-1990)، لذا، فإنه يحتاج إلى ترميم واهتمام، باعتباره معلماً بيروتياً وعثمانياً في غاية من الأهمية المعمارية والأثرية. وقد تقدمت السفارة التركية بهبة مالية وفنية لترميم هذا الأثر العثماني البيروتي، بالتعاون مع بلدية بيروت ورئيسها المهندس الدكتور بلال حمد. كما أن بعض المباني التي تحيط بحديقة الصنائع لا تزال تحافظ على طابعها التراثي والتاريخي، كما أن مسجد طبارة الذي أقيم منذ سنوات قليلة بجوار الحديقة قد تناسق معمارياً وهندسياً لاسيما سوره وجدرانه الخارجية، التي بنيت بحجر رملي على غرار الحجر الرملي البيروتي العتيق الذي بني به سور الحديقة.
من جهة ثانية، فإن بلدية بيروت برئاسة حمد، قررت عدم استحداث مواقف للسيارات تحت حديقة الصنائع حفاظاً على الحديقة، وعلى البيئة المحيطة بها، وحفاظاً على مستواها ومستوى المنطقة. كما اتخذت قراراً بتأهيلها وإِعادة النظر في وظائفها الاجتماعية والترفيهية، وقررت أيضاً استحداث إنشاءات ووظائف جديدة للحديقة منها:
1 – إنشاء مسرح مفتوح لإقامة نشاطات فنية وثقافية وموسيقية.
2 – استحداث ركن خاص بالأطفال.
3 – إنشاء مضمار لهواة ومحبي رياضة المشي.
4 – إنشاء مضمار للدراجات الهوائية للصغار.
5 – ترميم نافورة المياه وسط الحديقة.
6 – ترميم السبيل الحميدي حفاظاً على التراث البيروتي العثماني.
7 – ترميم سور الحديقة وجدرانها بالحجر الرملي التراثي القديم.
ومن المقرر أن تنتهي هذه الأعمال في أيار الجاري، ووضع لوحة تذكارية، وهنا مشروع النص الوارد فيها:
“في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) وفي عهد والي بيروت المحروسة خليل باشا، احتفل في أيلول عام 1906 بوضع حجر الأساس لمباني “مكتب الصنائع والتجارة الحميدي” (سرايا وزارة الداخلية اليوم، ومبنى المكتبة الوطنية – كلية الحقوق والعلوم السياسية سابقاً).
ومع افتتاح هذه المباني عام 1907، افتتحت حديقة الصنائع في حضور الوالي والعلماء والأعيان والقناصل ورئيس البلدية والوجهاء على مساحة قدرها (21.894م2) أو (35.842) ذراعاً.
أقيمت “حديقة الصنائع” على عقارات لآل سيّور وطبارة وطيارة والحص وبعض العائلات البيروتية الأخرى. تم ترميمها وإِعادة تأهيلها في عهد رئيس بلدية بيروت المحروسة المهندس الدكتور بلال حمد، في إشراف المهندسة زينة مجدلاني، وبتمويل من شركة (AZADIA) وتنفيذ شركتي (ZMK) و(ASAM). تم إِعادة افتتاحها في 31 أيار 2014″.
الدكتور حسان حلاق مؤرخ وأستاذ جامعي / النهار