يرى البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم (+2012) أنّ مهمّة المسيحيّين العرب الرئيسة تكمن في ترجمة المسيحيّة للعالم العربيّ، مسيحيّة تخاطب العقل العربيّ والثقافة العربيّة. وهو، بذلك، لا يقصد ترجمة النصوص القديمة، وبخاصّة اليونانيّة، إلى اللغة العربيّة، بل يقصد بهذه الدعوة “أن نتوصل إلى أن تكون هناك مسيحيّةٌ المخاطَب فيها هو الإنسان العربيّ”. فالمسيحيّة، برأيه، لا تزال متقوقعة فكريًّا، “فلا يزال المسيحيّ يخاطب المسيحيّ كما لو كان يعيش في زمن غابر من التاريخ”. لذلك، يرى هزيم أنّ “واجبنا أن نتمكّن من مخاطبة المسلم” (أغناطيوس الرابع، مواقف وأقوال، جامعة البلمند، 2001، ص 103). المسألة لديه، إذًا، هي مسألة صوغ الخطاب المسيحيّ بلغة عربيّة مبينة تصل إلى عقل العربيّ وإلى قلبه أيضًا.
البطريرك هزيم قامة كنسيّة أرثوذكسيّة كبرى أسهمت في نهضة الكنيسة إبّان النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين. وقد أدّى دورًا كبيرًا في العمل المسكونيّ والتقارب ما بين الكنائس، ولا سيّما في مجلس الكنائس العالميّ ومجلس كنائس الشرق الأوسط، وكان منفتحًا على الحوار مع المسلمين في القضايا الأساسيّة التي تشغل الناس في حياتهم اليوميّة. لذلك وضع نصب عينيه العمل من أجل مسيحيّة ناطقة بالعربيّة يفقهها المسيحيّون والمسلمون واليهود وكلّ البشر الذين يحيون على مدى العالم العربيّ.
هزيم لم يتحدّث عن “قوميّة عربيّة”، بل تحدّث عن “المسيحيّين العرب”، لكنّه لم يهاجم القوميّة العربيّة. هو لم يكن قوميًّا عربيًّا، لكنّه كان عربيًّا ولم يقاطع القوميّين العرب. كانت الأولويّة لديه المسيح وكنيسته، ولذلك لم يؤمن بأيديولوجيّات أخرى قد تحجب المسيح عن الآخر. أمّا اللغة العربيّة لديه فهي وسيلة وليست غاية بحدّ ذاتها. هي وسيلة لإيصال المسيح كما يؤمن به المسيحيّون إلى قلوب المسلمين وعقولهم. اللغة العربيّة هي لغة البشارة المسيحيّة في هذه المنطقة، لأنّها هي اللغة المشتركة مع معظم المسلمين.
يزعم بعض مسيحيّي بلادنا، رفضًا لأيّ قاسم مشترك مع غير المسيحيّين، بأنّ أصولهم غير عربيّة، وهذا شأنهم الذي لا نناقش فيه. ولكنّهم يزعمون، في الآن عينه، أنّهم لا يمتّون بصلة إلى كلّ ما هو عربيّ، فهم بيزنطيّون أروام يونانيّون، أو آراميّون سريان آشوريّون كلدان، أو موارنة فينيقيّون، والله أعلم… هؤلاء جميعهم ينتقدون أيّ انتماء قوميّ مؤكّدين على خياراتهم التراثيّة الكنسيّة، فيما هم يتبنّون قوميّة دينيّة متقوقعة على ذاتها. يهربون من قوميّة تجمع المسلمين والمسيحيّين إلى قوميّة أحاديّة تجمعهم وأبناء طوائفهم وحسب. إيديولوجيا قوميّة في وجه إيديولوجيا قوميّة!
هذه القوميّة لا تشبه بالحقيقة سوى القوميّة الدينيّة اليهوديّة. وفي هذا يقول البطريرك هزيم: “إنّ مَن يعزل نفسه، كائنًا مَن يكون، يبطن نوعًا من الاعتراف بأنّه “شعب الله الخاص”. هذا ما وقع فيه اليهوديّ، ولكن قد يقع فيه المسيحيّ أيضًا، وقد يقع فيه المسلم أيضًا، لذلك يجب أن نكون، في هذه المنطقة، المختبر الذي لا يتقوقع أحدٌ فيه، وإلاّ يصبح كلّ طرف نافيًا للطرف الآخر بدل أن يكون قابلاً ومحاورًا له”.
ما يميّز المسيحيّين العرب عن سواهم من المسيحيّين في العالم إنّما هو لغتهم العربيّة التي تجعلهم مسؤولين عن إيصال المسيح إلى جميع الناطقين بالضاد. هل يمكن في بلادنا نشر البشارة بالمسيح باللغات اليونانيّة أو الآراميّة أو الأرمنيّة أو أيّ لغة قديمة أخرى؟ نعتزّ بتاريخ كنيستنا وبتراثها وبلغتها القديمة، لكنّنا لا نريد أن نقتل حاضرنا وحاضر رسالتنا في سبيل نهضة لغات تجعلنا أسرى التاريخ.
الأب جورج مسّوح