“طبخة بحص”، عبارة يردّدها العديد من العاملين في حقل الحوار المسيحي – الإسلامي. هي عبارة تأتي تعبيراً عن خيبة كبرى، وبخاصّة حين يتفوّه بها مَن عمل لأكثر من خمسين عاماً في هذا الميدان. فبقدر الآمال المعقودة على الحوار تأتي الخيبات الناجمة عنه.
من شروط الحوار الحقيقي أن تسوده الصراحة والشفافية والثقة المتبادلة والانفتاح، وأن تُطرح فيه القضايا الخلافية بموضوعيّة وبمنهجية علمية بعيدة عن روح التكاذب والتلفيق واللياقات، وبعيدة عن إطلاق الشعارات الجميلة التي أصبحت، لكثرة استعمالها، مبتذلة وتثير الغثيان لدى المتابعين لشؤون هذا الحوار وشجونه.
ومن شروط الحوار عدم التغاضي عن طرح المشكلات الأساسية التي تؤثّر سلباً في العلاقات ما بين المسيحيين والمسلمين. أما التذكير بنقاط التلاقي فهو أمر حسن، لكنّ الاقتصار عليه والاكتفاء به فهو من باب لزوم ما لا يلزم. فالمهمّة الأساسية لأي منتدى حواري، إنما هي السعي إلى مواجهة المشكلات والسعي معاً من أجل حلول مثلى مشتركة.
ومن شروط الحوار عدم الهروب من الواقع المرير والحالة المزرية، وتالياً عدم اللجوء إلى الاستعانة بالنصوص المقدّسة وبسير الأنبياء والرسل والقديسين والأولياء والخلفاء والملوك… هذا كله قد حفظناه. لكن مواجهة الواقع ومشكلاته هي الدافع إلى الحوار، لا بهاء النصوص والأساطير، والتباهي بترديدها كالببغاوات…
ومن شروط الحوار أنّه ليس حواراً بين ديانات، فالديانات لا تتحاور ولا تتقاتل، بل حوار بين أشخاص يمثلون أنفسهم فحسب، أو يمثلون جمعيات أو مؤسسات دينية… الحوار المسيحي – الإسلامي هو حوار ما بين المسيحيين والمسلمين مواضيعه مستقاة من الواقع الذي يحياه المؤمنون باختلاف بلدانهم وثقافاتهم والمشكلات التي تعترضهم في حياتهم اليومية.
يبطل أن يكون الحوار حواراً حين يصبح منبراً غايته تبرير الممارسات المنحرفة والخاطئة التي قام بها بعضهم باسم الأديان، أو حين يقال إن ما يجري لا علاقة له بالدين، أو إن هؤلاء المنحرفين خالفوا قواعد الدين الأصيلة، أو إنهم لا يمثلون الدين الحقيقي…
الأدهى في الأمر هو حين تتحوّل المنابر الحوارية منابر تكفيرية توجّه سهامها ضد كلّ مَن يجرؤ على طرح مسألة خلافية منتقداً فيها مواقف المنتمين إلى الدين الآخر. فبعضهم لم يأتِ إلى الحوار متسلّحاً بسوى ذهنية منطوية على نفسها وعلى رؤية منغلقة للدين وللعالم.
لا يتوانى بعضهم عن ممارسة القمع الفكري ضد مَن يزعجهم برأي مخالف لرأيهم. فحين تناولتُ في أحد المنتديات الحوارية مسألة الدولة الإسلامية ونظام “أهل الذمّة”، منتقداً في هذا الصدد جمود الفكر الفقهي عند المعاصرين وعدم مواكبتهم للعصر الحديث وقيام الدولة الوطنية، ومطالباً بالمواطنة والمساواة… انبرى أحدهم قائلاً إنّه لا يحقّ لي، أنا غير المسلم، أن أتناول مسائل في الفقه الإسلامي. فأجبته أنّ أحداً لا يستطيع منعي من مناقشة مسألة تعنيني بشكل مباشر، هي مسألة وضع المسيحيّين في الدولة الإسلاميّة. فكيف لا يحقّ لي مناقشة قانون يفرض عليّ ما هو مخالف لأبسط قواعد المواطنة والإنسانية؟
إذا لم يتناول الحوار المسيحي – الإسلامي، بصدق كبير، القضايا الأساسية والمشكلات التي تمسّ في الصميم العلاقات السويّة ما بين المواطنين في البلد، فلن يكون، ويا للأسف، سوى “طبخة بحص”.
النهار