هذه المقالة لن تنزلق إلى الردّ على تفاهات مَن ينعت المسيحيّة بـ”الديانة الفاشلة”، ليس لأنّ المسيحيّة ديانة ناجحة، وليس لأيّ أسباب أخرى تمتّ بصلة إلى المسيحيّة. السبب الوحيد الذي يدفعنا لعدم الردّ إنّما هو غياب الموضوعيّة والصرامة العلميّة عن كتاباته منذ عقود من السنوات وليس منذ يوم أمس وحسب.
لو تناول الكتاب الذي صدر عن مؤسّسة تابعة للأزهر الشريف في مصر الأديان بعامّة وأجرى عليها نقدًا علميًّا، كما فعل المفكّر الفرنسيّ رينان مثلاً في القرن التاسع عشر، من دون تفضيل إحدى الديانات على سواها من الديانات لكنّا احترمنا الكتاب وكاتبه، ولكنّا حينها دخلنا في نقاش معه مؤيّدين ومعترضين… ولكن ليس لـمَن يكون منحازًا وغير محايد أيّ صدقيّة في أيّ حكم يبرمه.
لقد وقع الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده، منذ أكثر من قرن، في هذا الفخ، إذ اعتقدا بصوابيّة رأي رينان بأنّ المسيحيّة هي ضدّ العقل والعلم والتقدّم، فيما وجدا في الوقت ذاته أنّ هذا الحكم لا ينطبق على الإسلام، لأنّ الإسلام هو دين العقل والعلم والمدنيّة. وبعد مائة عام يأتينا السيّد محمّد عمارة، عدوّ المنطق والعقل السويّ، ليحدّثنا بترّهات من هذا القبيل.
لكلّ ديانة من الديانات وجوه عديدة يرسمها سلوك المؤمنين باسمها. والحكم على أيّ ديانة منها إنّما يتمّ عبر الحكم على المؤمنين بها. فالقدّيسون والشهداء والأبرار الذين عاشوا ملء تعاليم السيّد المسيح يجعلون من المسيحيّة، عبر سيرهم الشريفة، ديانة ناجحة، إذ يمكن عيشها على أرض الواقع. أمّا حين يتصرّف المسيحيّون بعيدًا عن جوهر تعاليم المسيح، فهم الذين يجعلون من المسيحيّة، في نظر غير المسيحيّين، ديانة فاشلة، إذ تنقلب شهادتهم للمسيح إلى شهادةٍ ضدّ المسيح. وهنا الطامّة الكبرى.
المسيحيّون أمثال بطرس وبولس ويعقوب ويوحنّا، وأغناطيوس الأنطاكيّ، ويوستينُس الفلسطينيّ، أنطونيوس المصريّ، ويوحنّا الذهبيّ الفم، ومكسيموس الجولانيّ المعترف، ويوحنّا الدمشقيّ… قد أرونا مسيحيّة بهيّة ترقى بنا إلى السموات العُلى، وتبلغ بنا سدّة المنتهى… فيما مسيحيّون آخرون، ولن نسمّيهم، قد شهدوا لإبليس لا للمسيح إذ شوّهوا المسيحيّة بأفعالهم الدنيئة. نحن ليس لنا سوى مسيحيّة القدّيسين نفاخر بها الأمم جميعًا.
ثمّ كيف لمقيم في هذه البلاد التي تشهد منذ قرون، وبلا انقطاع، فشلاً إثر فشل أن يتحدّث عن فشل سواه. صحيح أنّ المسيحيّة الشرقيّة قد أخفقت في العديد من الحقب التاريخيّة وأفلحت في حقب أخرى، وأخفقت في شهادتها، كما أبدعت هنا وثمّة. لكنّ بلادنا لم تشهد باسم الدين سوى الحروب والمآسي والمجازر والفتن والقتل المجّانّي. إنّه فشل ذريع مسؤول عنه القيّمون على الشأن الديني، ولا سيّما المؤسّسات الدينيّة الجامدة التي تخاف من الاجتهاد وإعمال العقل.
هل قمّة فشل أفظع من أن يقتل المسلمون بعضهم بعضًا باسم الدين، فيما الصهاينة يستبيحون القدس وفلسطين؟ هل ثمّة أفظع من أن تُرتكب المجازر ويُذبح الأبرياء ويُهجّر الآمنون من ديارهم باسم الدين؟ هل ثمّة فشل أفظع من أن تسود أنظمة باسم الدين وثروات المسلمين تذهب إلى بنوك “الكفّار” من أهل الغرب الاستعماريّ؟
سيّد عمارة، لا يهمّنا رأيك بالمسيحيّة. فهي، إن كانت فاشلة برأيك، يكفيها فخرًا أنّها، في الشرق على الأقلّ، حملت صليب الشهادة وأحبّت المسلمين بصدق وتتمنّى لهم الخير أكثر بما لا يقاس ممّا يريده لهم إخوانهم في الدين. المسيحيّة، إن كانت فاشلة يا عمارة، يكفيها فخرًا أنّ المسلمين لا يُذبحون على أيدي مسيحيّين بل، وللأسف الشديد، على أيدي مسلمين.اذهب وارعَ إبلك حيث ينبغي لها أن تُرعى. فما هكذا تورد يا عمارة الإبل.