يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397) إنّ للشيطان ثلاثة رماح أساسيّة يتسلّح بها عادةً ليجرح النفس البشريّة، هي رمح الشراهة، ورمح الكبرياء، ورمح الطمع. وفي فقرة أخرى يتابع أمبروسيوس قائلاً إنّ التجارب الأقوى التي تصيب الإنسان فتهلكه إذا خضع لها بحرّيّته إنّما هي ملذّات الجسد، وسراب المجد، وجشع السلطة. القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم يذهب المذهب ذاته حين يقول إنّ الخطايا الرئيسة هي العبوديّة للشهوة، والتصرّف لأجل المجد الباطل، والرضوخ للمال.
الخطيئة هي، تحديدًا، حين يجعل المرء الإنسان الآخر مجرّد شيء قابل للمتعة أو للاستهلاك… أمّا ذروة الخطيئة، وبلا شكّ، فهي عدم الإحساس بأنّ الإنسان الآخر هو إنسان يملك روحًا وقلبًا وعقلاً، وبأنّ لديه مشاعر وعواطف، بل التعامل معه كأنّه شيء أو بكونه جسدًا من لحم وحسب. ذروة الخطيئة هي قتل “الإنسان” في الإنسان، واعتباره شيئًا نتوسّل فيه إشباع رغباتنا وشهواتنا.
يرينا تاريخ الكنيسة، بأمثلة وعِبر كثيرة، أنّ رجال الإكليروس ليسوا معصومين عن الوقوع في التجارب كسواهم من المؤمنين. فالعديد من الباباوات والبطاركة والأساقفة ورؤساء الأديار والكهنة والشمامسة والرهبان سقطوا بسبب انحرافاتهم التعليميّة أو الأخلاقيّة، وكانوا السبب في الانشقاقات التي ضربت الكنيسة منذ نشأتها إلى يومنا الحاضر، وجرّوا معهم جموعًا من المسيحيّين الذين وثقوا بهم وتأثّروا بأقوالهم وبسحر أشخاصهم.
لذلك يسعنا التأكيد على أنّ المكان المقدّس لا يقدّس الجالسين فيه بصورة آليّة أو سحريّة، كما أنّ الثوب الدينيّ لا يقدّس مَن يرتديه بصورة آليّة. هما يقدّسان فقط مَن يخضعون لكلمة الله، التائبين الخاشعين المتواضعين. ولا يسكن الروح القدس في إنسان فيقدّسه، إذا لم يكن ثمّة تناغم ما بين مشيئة هذا الإنسان ومشيئة الله. الروح القدس يحترم حرّيّة مَن لا يريد أن يقتنيه، فلا يسكن فيه على الرغم من عصيانه إيّاه، بل يهجره منتظرًا توبته ليعود إليه ويسكن فيه ويقدّسه.
يدعو القدّيس كبريانوس أسقف قرطاجة (+258) إلى طرد كلّ مَن تسوّل له نفسه استغلال موقعه في الكنيسة لإشباع شهواته بكلّ أصنافها، فيقول: كلّما اهتاج الخصم (خصم الكنيسة الذي من الداخل يعمل) كثرت أخطاؤه وارتفعت حماقته واضطرم صدره حسدًا، وصيّره الطمع أعمى، وأفسده الإثم، وزهاه الكبر، وأذهبَ الغضبُ عقله… فليحترس الإخوة من هذه الأمور”.
كيف ينبغي للمؤمن أن يتصرّف تجاه هذا الصنف من الخصوم؟ ينصحه كبريانوس بالقول: “تجنّبْ مثل هؤلاء الناس. أبعدْهم عن جنبك وأذنيك، وكأنّ حديثهم الضارّ يحمل عدوى الموت… إنّه عدوّ المذبح، ومتمرّد على ذبيحة المسيح. فهو للإيمان كفر، وللدين تدنيس. إنّه خادم متمرّد، وابن إثم، وأخ معادٍ، ومزدرٍ بالأساقفة، ومتخلٍّ عن الشيوخ، ومتجاسر على إنشاء مذبح آخر ليقيم صلاة أخرى بكلام محرّم، ومدنّس للتقدمة بذبائح نجسة”.
بيد أنّ القدّيس يوحنّا السلّميّ السينائيّ (القرن الثامن الميلاديّ) قد وضع كتابًا عن الجهاد الروحيّ، عنوانه “السلّم إلى الله”، أو “سلّم الفضائل”، يتحدّث فيه عن سلّم مؤلّف من ثلاثين درجة تمثّل كلّ واحدة منها فضيلة من الفضائل، على الساعين إلى الكمال أن يرتقوها واحدة فواحدة للوصول إلى الله. ويؤكّد السلّميّ على احتمال أن يسقط الإنسان حتّى وإن بلغ أعلى السلّم. فطالما هو على قيد الحياة، تبقى إمكانيّة سقوطه واردة.
التجارب حاضرة في الحياة اليوميّة لكلّ منّا، وكلّ إنسان معرّض للسقوط فيها. لكنّ ذوي السلطة: الدينيّة أو الروحيّة أو السياسيّة أو الماليّة… مسؤوليّتهم أكبر لأنّهم يستغلّون مواقعهم وسلطتهم في غير مكانها، ولأنّ خطاياهم وأخطاءهم ضحاياها أكثر، وتسيء إلى المقامات التي يمثّلونها أو يشرفون عليها ويديرونها. خطيئتهم أكبر لأنّهم يعتقدون أنفسهم حماة الأخلاق وهم في الواقع لصوصها. خطيئتهم أكبر لأنّها تدكّ الهيكل على مَن فيه.
شاء الربّ يسوع أنّ يجعل الكنيسة “كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدّسة وبلا عيب” (أفسس 5، 27). هذا الرجاء الأخرويّ هل يمكن تحقيقه اليوم؟ نعم، إذا تمّ طرد اللصوص والمرتكبين على أنواعهم من الهيكل.
ليبانون فايلز