في غرفة داخل أحد المنازل التي لا تزال قيد الإنشاء، في الحي المعروف في زحلة باسم «حي الأشوريين»، انتهت رحلة «النجاة» التي كتبت لأربع عائلات أشورية، بعدما غنم أفرادها حياتهم وأنقذوها من الموت الذي حل بأكثر من 34 قرية وبلدة اشورية في محافظة الحسكة السورية.
هربت العائلات من قرية تل دمشيش مع اللحظات الأولى لانطلاق الاشتباكات المسلحة. لم ينظر أحد من الهاربين إلى الوراء، لم يتوقفوا عند مشاهد القتل والذبح والنهب والسرقة. همهم كان الابتعاد عن الموت الذي اجتاح قرى وبلدات لا تحمل سكيناً ولا تعرف القتل، بل تشتهر بمسالمتها وهدوئها، كما يشير أحد افراد تلك العائلات. الرحلة انطلقت من تل دمشيش باتجاه مدينة الحسكة وصولاً إلى مطار دمشق الدولي، من مطار القامشلي. بعض الهاربين استقر في دمشق، في حين توجّه مئات منهم إلى لبنان عبر معبر نقطة المصنع الحدودية.
فجر 23 شباط الماضي، استفاقت القرى الأشورية على أصوات القذائف والصواريخ التي تنهمر على المنازل، قلة من العائلات كتبت لها النجاة وتصف نفسها بـ «المحظوظة»، كما هي حال عائلات سيمون حسو، وخمداديشو، المؤلفة من ثلاثة أفراد، وإدوار آدم، وزومايا زومايا. وهي تستقر عند أحد الأقارب في حي الاشوريين في زحلة.
لم تحمل هذه العائلات في رحلة هروبها سوى ما تلبسه، كما يشير عدد من أفرادها. حال الخوف التي سبقت الهجوم، دفعت بعض العائلات إلى طلب المساعدة من طوني ماروكيل، وهو أحد الأقارب من اللبنانيين الأشوريين في زحلة، لتأمين سمات دخول للهاربين. الخوف كان يزداد، وهو ما كان يشعر به مَن كان يترقب اجتياح القرى.
لا يريد أحد من أفراد تلك العائلات الحديث إلى الإعلام أو التصوير. ولا يحبذ أي منهم استعادة بعض الصور التي عاشها مع اقتحام قراهم وبلداتهم من قبل «داعش». التنظيم الإرهابي الذي قتل واختطف وحرق المنازل. فالقلق يفرض سطوته عليهم لأن نجاة وسلامة المئات من أقاربهم دونها مصير مجهول، وفق توصيف زومايا، وهو واحد من العائلات الأربع التي وصلت إلى زحلة. يشير إلى أنه هرب وعائلته باتجاه الحسكة التي تبعد 30 كيلومتراً عن قريته تل دمشيش مع اللحظات الاولى لاندلاع الاشتباكات بين الأكراد و»داعش».
الموت ليس جديداً على الأشوريين، يقول طوني ماروكيل، معتبراً إن «التاريخ يعيد نفسه بعد 82 سنة على المجازر التي ارتكبت في العام 1933، بحق أجدادنا في العراق بالتواطؤ مع البريطانيين. اليوم تتكرر المجزرة بحق الأشوريين ولا يزال المحرض هو البريطاني والغرب والأيادي الصهيونية واضحة، إنما اليد التي تنكل وتقتل انيطت في هذا التاريخ بتنظيم داعش».
استقبل ماروكيل أقاربه عند معبر المصنع وأدخلهم بعدما زوّدهم بالمستندات المطلوبة لسمات دخول وفق الإجراءات اللبنانية المتبعة حالياً، في ما يتعلق بدخول السوريين. وذلك قبل يوم على إصدار المديرية العامة للأمن العام إعلانها بتسهيل دخول الأشوريين. وهنا يتوجه ماروكيل بالامتنان إلى المديرية لما قامت به من مساعدة في تأمين عملية الدخول وتسهيلها، لافتاً إلى أنه خلال انتظاره أقاربه الوافدين من الشام التقى بأشوريين آخرين وعددهم 17 شخصاً، وقام بتأمين دخولهم وتوجّه بهم إلى بيروت.
في المقابل، يجد زومايا توصيف «عائلات محظوظة»، الذي يطلق على أفراد عائلته وبقية العائلات التي تتكدس اليوم فوق بعضها البعض في صالون تحول إلى غرف نوم عدة، في منزل لا يزال القسم الأكبر منه قيد الإنشاء، يجده «منطقيا» وإن كان الواقع مأسوياً. يتحدث بفرح عن حياة كتبت له ولأفراد عائلاته وأقاربه من دون التحسر على البيوت والأملاك التي نهبت وسرقت واحترقت، إنما الأهم لا نزال أحياء على الرغم من معاناة التشرد.
الألم كبير عند هذه العائلات، فالخوف على الأقارب ظاهر بشكل واضح، وخصوصاً في ما يتعلق بالمفقودين والمعتقلين عند «داعش»، في حين أن الأخبار التي جرى تداولها عن إطلاق سراحهم لا تزال من دون تأكيد، ولم توثق بأي اتصال من أحد، الأمر الذي يضاعف القلق على مصير تلك العائلات.
لا يعـــــرف زومايا مستقبل الأيام المقبلة، ومسار يومياته بات مرتبطاً بواقع الأحداث السورية وما حصل في قريــته، التي باتت مدمـرة، تجعل عودته مستحيلة في المدى المنظور.
السفير