من الكتب الرائعة التي قرأتُها لهُ ( الأسبوع العظيم في آلام المسيح وموته ، وقيامةُ المسيح ) .. إنه اللاهوتيّ الرائع رومانو غواردينيّ . الذي ، بكتاباته المميّزة ، ألهبَ العقول والقلوب بنفحات ٍ لاهوتيّة ، روحيّة عميقة ، تجعلُ المرءَ يغوص في عمق شخصيّة يسوع المسيح .
ولقد أخترتُ أن أنقلَ لكم ، من خلال هذه السلسلة ، ونحنُ على عتبة الدخول في الأسبوع العظيم ( الذي غيّر تاريخ العالم وقلبه رأسًا على عقب ) ، بعضًا ممّا تطرّق له هذا اللاهوتيّ الرائع ، من كتابه المذكور أعلاه . وستكونُ أوّل هذه الحلقات : خراب أورشليم ونهاية العالم .
يروي الإنجيليون ممّا وقعَ في الأيّام الأخيرة من حياة يسوع :” ولمّا خرجَ يسوعُ من الهيكل قال له أحد التلاميذ : يا معلّم أنظرْ ! يا لها من حجارةّ! ويا لها من أبنية ! ، فقال له يسوع : أترى هذه الأبنية العظيمة ؟ لم يبقى منها حجرٌ على حجر ، بل يُنقَضْ كلّه …. ” مرقس 13 . ويقولُ بعده :” وإذا رأيتم أشنعَ الخراب نازلا حيث لا ينبغي أن يكون – ليفهم القارئ – فليهربْ إلى الجبال من كانَ يومئذ في اليهوديّة ، ومن كان على السطح فلا ينزل إلى البيت ليأخذ شيئا منهُ …… ” مرقس 13 : 14 – 18 .
يقول غوارديني : ” إنّ ما يرويه الإنجيلُ هنا ليس بفاجعة سياسيّة ، لكنّه أيضا فاجعة سياسيّة ! ، ويتكلّم المؤرّخون عنها بالتالي في هذا المعنى أيضا . إلاّ أنّ يسوع يخبر عنا على أنّها عقاب للمدينة التي لم تردْ أن تستقبل يسوع. وفي سياق الرواية المخصّصة للرحلة الأخيرة إلى أورشليم نقرأ : فلّما اقتربَ يسوع فرأى المدينة بكى عليها وقال : ليتك ِ عرفت ِ أنت أيضا في هذا اليوم طريق السلام ! لكنّه حُجبَ عن عينك ِ . فسوفَ يأتي زمنٌ يلفّك أعداؤك بالمتاريس ، ويحاصرونك ويُضيّقون عليك الخناق ( إنها الحرب وخراب اورشليم في 70 م ) من كلّ جهة ٍ ، ويُدمّرونك وأبناءك الذين هم فيك ، ولا يتركونَ فيك حجرًا على حجر ، لإنّك لم تعرفي ” الزمن ” الذي كُنت ِ فيه مُتفقّدة (لوقا 19 : 41 – 44 ) .
ماذا سيحدث ؟ سيحدث دينونة وعقوبة . الدينونة ، والعقوبة . يقولُ غوارديني : ماذا تعني هاتان الكلمتان ؟ أوَليسَ تاريخُ العالم هو دينونة ُ العالم ؟ . ليسَ في ذلك من شكّ . فكلّ فعل ٍ له نتائجهُ . وكلّ تصرّف مدروس ، ورصين ، وشريف يعملُ على إزدهار الشعوب والممالك ، فيما كلّ تصرّف أخرق ، خيالي ، وغير شريف يعملُ على خرابها . فما من حركة تبقى في الطريق ، وكلّ شيء يسعى إلى غايته بقوّة دفع داخليّ . وما يحدثُ فهو نتيجة لسابق ، وإعدادٌ للاحق . هكذا ، تبقى جلساتُ ” محكمة التاريخ ” مفتوحة تصدرُ أحكامها ليلَ نهار مدى الدهر . ومن الاحكام ما هو ، والحقّ يقال ، ” غامض ” لا يُدرَك . والسببُ في ذلك هو أنّ نتائج الأفعال لا تُطال ، بوجه العموم ، أصحابها المسؤولين ، بل غيرهم ممّن يعيشونَ في أحقاب أخرى . وكثيرًا ما تعملُ المحكمة بطريقة هي بحدّ ذاتها ظلامة جديدة تظهرُ لمن يفتح عينه مبلغ ما تبلغُ أنظمة الأمور في عالمنا من الإضطراب والتعسّف . وما عدا ذلك ، فهذا الحكم الناجز يختلفُ كلّ الإختلاف عمّا يعنيه يسوع هنا بكلامه .
هذا الحُكم ، ليس بعقوبة ٍ إلهيّة لذنب ٍ بعينه . فإن قالَ قائلٌ : إن كانت معركة واترلو عقوبة من الله لنابليون عن كبريائه ، فهل سنواتُ مجده تكونُ مكافأة له ؟ ويقولُ غواردينيّ هنا : وعلامَ ؟ كلاّ . الأمورُ لا تسيرُ على هذا المنوال . لإنّ التاريخ هو نسيجٌ لا يقاسُ بمقياس من أسباب هي ذاتها نتائج ، ومن نتائج تصير بدورها أسبابًا . ومن يرى فيها دينونة ، أي من يفسّرها من وجهة نظر الله يتجاوزُ ” حدود البصيرة البشريّة ” .
يتبعُ