رأينا في الحلقة (1) ، أنّ الحُكم الناجزَ (دينونة وعقوبة) ، ليس عقوبة إلهيّة لذنب ٍ . الأمور لا تسيرُ على هذا المنوال . فالتاريخُ هو نسيج لا يقاسُ بمقياس من أسباب هي ذاتها نتائج ، ومن نتائج تصيرُ بدورها أسبابًا.
ويقولُ غوارديني : من يرى فيها ” دينونة ” ، أي من يفسّرها من وجهة نظر الله يتجاوز حدود البصيرة البشريّة .. فقد يكون إزدهار إحدى الحقب ومجدها عقوبة بالحقيقة ، وقد تكونُ مصيبة ما علامة ثقة من الله ورضى . كذلكَ في الحياة الفرديّة ، فليس المرضُ بالضرورة عقوبة ، ولا الصحّة ثوابًا . وإذا أراد الله أن يكشفَ عن معنى سير التاريخ ، فعليه أن يبعث نبيّا ، وأن يتكلّم هو نفسه بلسانه .
أمّا نحنُ الذين تجرفهم تيارات وأمواج هذا الزمن ، يقول غوارديني ، فإننا نعلمُ ، أو بالأحرى نحاولُ بعناء ٍ أن نؤمن بإنّ كلّ ما يأتينا فإنّما يأتينا من الله ، حتى ولو كان نتيجة لجور الآخرين .
لا نستطيع أن نتكلّم ، بنوع خاصّ ، في سياق التاريخ ، إلاّ عن عقوبة أنزلها الربّ الديّان في شعب : هي العقوبة التي فرضت على إسرائيل ، وذلك لإن ليس التاريخ البشريّ ، عند اسرائيل ، سوى نتيجة مباشرة لإيمانه أو لجحوده . ولكن ، أليس ذلك من شأن كلّ الشعوب ؟ أوَلا تكوّن الحياة الدينيّة الطبقة الأعمق والأكثف من وجودها التاريخيّ؟ أوَلا تُلهم الحياةُ الدينيّة لذلك كلّ القرارات الهامّة المتعلّقة بالمصير الخارجيّ لحياتها التاريخيّة؟ .
لا شكّ في أنّ التطوّر التاريخيّ لشعب هو ، كاليونانيّ والرومانيّ والهنديّ مرتبط في آخر الأمر بموقفه الدينيّ . لكن هذه الحياة الدينيّة هي ، عند هذه الشعوب ، ثمرة عطاء طبيعيّ يظهر ظهور النبوغ في فنّان والقيمة الحربيّة في قائد . ليس الأمر كذلك عند الشعب اليهوديّ ، فهو ليس له تاريخ دينيّ نابع من قابليّات له وإستعدادات طبيعيّة ، ولم يتطوّر على شكل خطّ منحن ٍ شبيه ٍ بالذي كان لتطوّر سائر الشعوب قبل المسيح ، ولم يتدرّج في إعطاء تعبير وصور لعطايا دينيّة فطريّة خاصّة به ، ولم يغتن ِ بأشكال وتعاليم متتابعة كان بوسعها أن تكوّن تاريخه الدينيّ ؛ ولو كان له ذلك ، إذا لكانت له ” ديانة يهوديّة ” حقيقيّة تختلفُ كلّ الاختلاف عن تلك التي نعرفها بالفعل ، ولكان للشعب ، في هذه الحالة ، خبراته الدينيّة الخاصّة ، ولكان سعى إلى تأثير السكّان الأصليّين من كنعان ، كما ومن الممالك الوثنيّة الجبّارة لعهد البابليّين ، والآشورييّن ، والفرس ، والمصريّين ، واليونان ؛ ولكانت النتيجة ديانة ساميّة شبيهة بغيرها من أمثالها ، مع بعض الخطوط المميّزة ، ولكانت تطوّرت ، وتروّضت ، وبلغتْ ربّما نوعًا من الوحدانيّة ، لتفسد أخيرًا أسوة ً بكلّ الديانات التاريخيّة .
لإسرائيل تكوينٌ دينيّ خاصّ … كلّ ما قلناهُ أعلاه ، لم يحدث . لم يكن في البدء – كما يسمّيها غوارديني – من ” جرثومة تاريخيّة ” ، ومن دفع ٍ من اسفل ، بل كان ، بالعكس ، وجهان هما من العظمة والصفاء ما لنْ يكون له مثيل ، ناهيكَ عن أن يتجاوزهما متجاوز في تاريخ اسرائيل : إبراهيم وموسى . إلا أنّ ما حدث في حياة هذين الرجلين ، لم يكن ” خبرة دينيّة ” من نتاج البيئة الروحيّة ، بل ” دعوة ” من الله إلى الشعب، ووضع يد الله على تاريخه ، نشأ بهما عهد مقدّس قام أوّلا على الوعد والإيمان ، ثمّ على الناموس والطاعة . وما تبعَ كان سلسلة من النزاعات لا تنتهي بين إستعدادات هذا الشعب الدينيّة الطبيعيّة ، وتأثير البيئة من طرف ، ومن الآخر بين ما يأتي من الله ، من حقيقته ، من وصاياه ، من تصرّفاته . إذن ، لا يوجد من ديانة يهوديّة بالمعنى الذي تعنيه ديانةُ اليونانييّن أو الصينيّين . أمّا الذي يوجد فهو ، إيمان شعب العهد القديم أو جحوده ، أي النزاعُ بين الوحي الآتي من عند الله ، وبين الإرادة الدينيّة الشعبيّة ، التي تقبله أو ترفضه .
يتبع : ثمرة النزاعات والتشتّت ، وساعة يسوع وخلاص العالم ، ومنها ” خرابُ المدينة وخرابُ العالم ” .
زينيت