في الجلسة الختامية لمؤتمر “إبادة السريان: شهادة وإيمان”، الذي نظّمته بطريركيتا أنطاكية للسريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك، وعُقد في جامعة الروح القدس ـ الكسليك ـ لبنان، أيام 2 و3 و4 تمّوز 2015، ألقى الأب حبيب مراد، أمين سرّ بطريركية السريان الكاثوليك، والأب جوزف بالي، السكرتير البطريركي ومدير دائرة الإعلام في بطريركية السريان الأرثوذكس، وهما من اللجنة التنظيمية للمؤتمر، تقريراً يختصر أعمال المؤتمر، ويتضمّن أهم النقاط التي وردت في حفل افتتاحه وفي الجلسات والمحاضرات التي تضمّنته.
أدناه تجدون نص التقرير مع الخلاصات والتوصيات:
إنها فرحة كبيرة أن تلتقي الكنيستان السريانيتان الكاثوليكية والأرثوذكسية معاً وتعقدان مؤتمراً واحداً تحييان فيه ذكرى اليوبيل المئوي لمجازر الإبادة الجماعية السريانية “سيفو ـ السوقيات”، التي حصلت في ظلّ الحكم العثماني. وهذا المؤتمر هو علامة حسّية وتجسيد لما دأب صاحبا القداسة والغبطة رئيسا الكنيستين على تأكيده، بأنّنا كنيسة واحدة بأصول واحدة وجذور واحدة وتراث واحد ولغة واحدة هي اللغة السريانية لغة ربنا يسوع المسيح، ومن أبرز ما يوحّدنا وحدة الشهادة والدم.
عنوان المؤتمر “إبادة السريان: شهادة وإيمان”، وقد جمع في حفله الإفتتاحي أصحاب القداسة والغبطة الآباء بطاركة الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية في هذا الشرق، الذين عبّروا بحضورهم الشخصي عن اعتراف كنائسهم بأنّ تلك المجازر هي بحق إبادة طالت الشعب السرياني في تلك الحقبة.
فمع أبوينا البطريركين الجليلين، حضر حفل الإفتتاح، مساء يوم الخميس 2 تمّوز، أصحاب الغبطة البطاركة: الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، ويوحنا العاشر اليازجي، والكاثوليكوس آرام الأوّل كيشيشيان، وابراهيم اسحق، والسفير البابوي في لبنان المطران كبريالي كاتشا، والمطرنان كيرلس بسترس ممثّلاً البطريرك غريغوريوس الثالث لحّام، وميشال قصارجي ممثّلاً البطريرك مار لويس روفائيل الأوّل ساكو، ولفيف من الأساقفة والرؤساء العامين والرئيسات العامات والكهنة والإكليريكيين والراهبات، وفعاليات رسمية وسياسية واجتماعية وثقافية.
وأكّد البطاركة في كلماتهم على ضرورة الإعتراف بالإبادة في العالم كلّه شرقاً وغرباً، مشيرين إلى أنّ هذه المجازر وبالرغم من فظاعتها، هي شهادة ناصعة على التمسّك بالإيمان المسيحي والشهادة له بالكلمة والحياة حتى بذل الدم. وحثّوا المسيحيين في الشرق على التجذّر في أرض الآباء والأجداد وعدم الانجرار وراء دعوات واهية برّاقة بهجرة تقتلع من الجذور.
وفي الجلسة الأولى صباح يوم الجمعة 3 تمّوز، تناول المحاضرون الوضع العام في منطقة شرقي المتوسّط خلال المئة عام التي مضت، مشدّدين على الأثر السلبي لمجازر الإبادة مع التداعيات التي انعكست على وضع المسيحيين والسريان بشكل خاص. كما عالجوا موضوع العنف الذي يظهر في الإبادات، على غرار الحروب والتعديات. فكان تحديدٌ أفضل لماهيّة الإبادة التي تعرّض لها السريان وأسبابها وعناصرها التي تميّزها عن سائر المجازر، ألا وهي أنّ السريان لم يكونوا مذنبين، بل كانوا ضحية الكره البحت والحسد والتعصّب العرقي والإتني والديني المتطرّف.
وفي الجلسة الثانية التي خُصِّصت لتاريخ السريان في المنطقة، أشار المحاضرون إلى دور الكنيسة السريانية منذ نشأتها في تهذيب الحضارة في المنطقة ـ لا سيّما في الرها ـ ونقل العلوم والثقافة للشعوب في المنطقة والجوار، بل حتّى خلق الجوّ المناسب في الإدارات العامة والدواوين لنموّ البلاد وتطوّرها. وقد كانت للمسيحيين امتيازاتٌ في عهد السلاطين العرب وغيرهم الذين حكموا البلاد. كما سلّطوا الضوء على أحداث سويرك المشؤومة في عام 1895 في نهاية القرن التاسع عشر، والتي هي مجازر نعرف الآن أنّها كانت تشير إلى ما سيحدث في عام 1915 من مجازر إبادة.
وفي الجلسة الثالثة، تابع المحاضرون الحديث عن تاريخ المذابح والإبادة خلال الحرب العالمية الأولى. فعالجوا أسباب الإعتداءات على القرى السريانية في طور عبدين، مستعينين بالمصادر السريانية والعربية وغيرها التي تذكر وتوثّق هذه المجازر. وتناولوا امتداد هذه المجازر لتطال السريان والآشوريين والكلدان في “حقّاري” وفي أذربيجان، للتأكيد أنّ السريان كانوا مستهدَفين في السلطنة العثمانية كما في مناطق مجاورة، وذلك لتمسّكهم بدينهم المسيحي.
أمّا يوم السبت 4 تمّوز، وهو اليوم الثالث والأخير للمؤتمر، وقبل البدء بالمحاضرات، صلَّينا معاً تشمشت (أي خدمة) الشهداء، وذلك لراحة نفوس الشهداء، ورفعنا الصلاة على نيّة إعلان تطويب المطران الشهيد مار فلابيانوس ميخائيل ملكي. وفي الجلسة الرابعة، عرض المحاضرون أهمّ مراحل حياته ومسيرته الدينية، لا سيّما أنّه أبى أن يترك قطيع المسيح وسيق للموت، فقبل بشجاعةٍ الإستشهاد متمسّكاً بإيمانه، ومعزّياً المؤمنين الذين كانوا يلاقون المصير عينه.
كما تناولوا أسماء مضيئةً من شهداء الإبادة السريانية، من أساقفة وكهنة وعلمانيين، لا سيّما المطرانين الشهيدين مار أثناسيوس دنحو، ومار أنتيموس يعقوب.
وفي الجلسة الخامسة، عُرضت شهادات حيّة عن المجازر السريانية، والمُلفت أنّ من بينها شهاداتٍ أرمنيةً، وهذا ما ندر. وتناول المحاضرون بإسهابٍ مجزرة كاتدرائية سيّدة النجاة في بغداد عام 2010، والتي أعطت للكنيسة شهداء جدداً من كهنة وعلمانيين. وكذلك بلدة صدد وما حصل فيها من مآسٍ أدّت إلى استشهاد نخبةٍ من خيرة أبنائها.
وفي الجلسة السادسة، انطلق المحاضرون من ما تحتويه الكتابات السريانية المخطوطة عن الشعب السرياني والتي تشهد لعراقة حضارته وعظمة تاريخه، للتأكيد أنّ الشهادة هي من ضمن حياة الكنيسة السريانية، بل هي البذرة التي تغذّي الإيمان. وبما أنّ إحدى نتائج الإبادة هي هجرة ما تبقّى من المسيحيين إلى الخارج ولا سيّما إلى أوروبا، عرض المحاضرون لما يمكن أن يكون تأثيرها على الإيمان في أوروبا، علّها تكون إرساليةً مشرقيةً للغرب، تحمل نور المسيحية للتبشير بها من جديد في العالم.
وخلصوا إلى أنّ المسيحيين المهجَّرين اليوم هم جزءٌ لا يتجزّأ من مكوّنات هذا الشرق، ساهموا في نهضة حضارته ونشرها تحت كلّ سماء.
وبعد هذا العرض الموجز لأبرز محطّات وتفاصيل جلسات المؤتمر، نرفع باسم اللجنة المنظّمة توصياتٍ نضعها أمانةً بين يدَي صاحبي القداسة والغبطة، ونوجّهها إلى كلّ المعنيين:
أوّلاً: عدم الإكتفاء كسريان بإحياء الذكرى المئوية لمجازر الإبادة، بل حمل القضية والسعي الدؤوب للمجاهرة بها حفاظاً على الهوية السريانية.
ثانياً: أخذ العبرة من استشهاد من سبقونا في مجازر الإبادة السريانية “سيفو”، والتشفّع بهم والإقتداء بسيرتهم، للتمسّك بالأرض والجذور واللغة السريانية وتلقينها ونشرها في كلّ أصقاع الأرض، أمانةً ووديعةً ثمينةً للأجيال القادمة.
ثالثاً: رغم أننا شعبٌ من دون أرض، إنّما علينا عدم الإستسلام لهذا الواقع. نحن شعبٌ ذو تاريخٍ مجيدٍ، شعبٌ ترجم الحضارة ونقلها، وهو يفاخر بدينه وانتمائه.
رابعاً: إصدار أعمال هذا المؤتمر وكلّ ما تضمّنه من كلمات ومداخلات ومحاضرات في كتاب يصدر باسم البطريركيتين السريانيتين.
خامساً: إقامة أبحاث ومؤتمرات تخدم تاريخنا المغيَّب والمهمَل لحقباتٍ عدّة، معتمدين على التاريخ أساساً لصناعة المستقبل، إذ لا يمكن القبول باستمرار الإبادة أو الإستسلام للسيف المسلَّط فوق رؤوسنا.
سادساً: التاكيد على أنّ قضيتنا هي عينها قضية الأرمن والآشوريين والكلدان وسواهم، وأنّ قوّتنا تكمن في اتّحادنا. نحن جزءٌ من كلّ، كلّنا واحد، في وجه الإرهاب والتطرّف وعدم قبول الآخر.
سابعاً: جعل جلجلة الإبادة طريقاً ودرباً للقيامة، عبر فهم المذابح كقرابين حبٍّ تُقدَّم للعزّة الإلهية، من خلالها يتعزّز رجاؤنا فوق كلّ رجاء ببريق أملٍ نحو مستقبلٍ مشرقٍ، فلا بدّ من أن تعقب النفقَ المظلمَ طريقٌ معبَّدةٌ بالورود والرياحين.
في نهاية مؤتمرنا هذا، لا يسعنا إلا أن نقدّم الشكر لله الذي جمعنا سويةً ووحّد جهودنا لنقيم هذا المؤتمر، نحن أبناء الكنيسة السريانية الواحدة الشاهدة لإيمانها المسيحي والشهيدة حبّاً بفاديها ومخلّصها.
نشكر صاحبي القداسة والغبطة مار اغناطيوس أفرام الثاني ومار اغناطيوس يوسف الثالث يونان اللذين باركا جهودنا وشجّعانا بمبادرتهما الأخوية لإقامة هذا المؤتمر كعلامة شركة ووحدة، أدامهما الله، فهما يجسّدان الراعي الصالح الواحد للكنيسة الواحدة.
وباسمهما نشكر أصحاب القداسة والغبطة الآباء البطاركة وممثّليهم الذين باركونا بحضورهم وكلماتهم في افتتاح المؤتمر. ونشكر أيضاً جميع الرسميين والأمنيين والذين حضروا المؤتمر بافتتاحه وجلساته.
نشكر جامعة الروح القدس ـ الكسليك، هذا الصرح العلمي الحضاري الذي استضافنا، ونشكر جميع الذين تعاونوا معنا من أجل إنجاح المؤتمر.
نخص بالذكر جميع رؤساء الجلسات والمحاضرين من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين متبحّرين ومتخصّصين، صبغوا مؤتمرنا بالصبغة الأكاديمية العلمية المتجرّدة، ملقين الضوء على تلك المجازر التي شكّلت وصمة عارٍ كبرى على جبين الإنسانية بأسرها.
نشكر الإعلامية كلود أبو ناضر هندي وفريق عملها، وبخاصةٍ الإعلامي روي أبو زيد الذي أعدّ الفيلم الوثائقي، وجميع وسائل الإعلام اللبنانية والسريانية المرئية والمسموعة والمكتوبة التي غطّت المؤتمر، وبخاصة تلفزيون Télé Lumière – Noursat. ونشكر أعضاء جوق أبرشية زحلة والبقاع للسريان الأرثوذكس، الذين رنّموا بالسريانية متغنّين بشهدائنا الأبرار.
ويطيب لنا أن نتوجّه بكلمات شكرٍ من القلب للذين تعبوا في الإعداد والتنظيم والإدارة، نشكر نيافة المطران مار ديونيسيوس جان قواق المعاون البطريركي للسريان الأرثوذكس، الذي اضطرّ للغياب عنّا لارتباطه بمهمّة كنسية في الولايات المتّحدة، وسيادة المطران مار أفرام يوسف عبّا رئيس أساقفة بغداد للسريان الكاثوليك. نشكر اللجنتين البطريركيتين اللتين شكّلتهما الكنيستان لإعداد احتفالات ذكرى مئوية الإبادة. ونشكر خاصةً الدكتورة جويل الترك والشمّاس يوسف درغام والشمامسة الإكليريكيين من الكنيستين، وجميعهم ساندونا، نحن الأب حبيب مراد أمين سرّ بطريركية السريان الكاثوليك والأب جوزف بالي السكرتير البطريركي للسريان الأرثوذكس، في الإعداد لهذا المؤتمر.
أهّلَنا الله أن نكون شهوداً حقيقيين لإيماننا المسيحي هنا في أرض الآباء والأجداد حيث أوجدنا الله، ونؤكّد أنّ من يؤمن بالرب يسوع لن يذوق الموت أبداً، وهو إن مات، فإنه ينتقل إلى حياةٍ أبديةٍ مع الفادي الحبيب يسوع، له المجد في وحدة أبيه وروحه القدوس إلى الأبد.
وخير ما نختم به، تأمّلٌ آبائي عن الشهداء:
“ܕܳܡܶܝܢ ܣܳܗܕ̈ܶܐ ܠܺܐܝܠܳܢ̈ܶܐ܆ ܕܰܢܨܺܝܒܺܝܢ ܥܰܠ ܡܰܒܽܘ̈ܥܶܐ. ܐܺܝܠܳܢ̈ܶܐ ܝܳܗܒܺܝܢ ܦܺܐܪ̈ܶܐ܆ ܘܣܳܗܕ̈ܶܐ ܡܰܪܕܶܝܢ ܥܽܘܕܪ̈ܳܢܶܐ”. وترجمته: “الشهداء يشبهون الأشجار المغروسة على ينابيع المياه. الأشجار تعطي الثمار، والشهداء يفيضون بالمعونات”.
شكراً جزيلاً، ܬܘܕܝ ܣܓܝ ܘܒܪܟܡܪܝ.