بداية ، أحبّ أن أعطيَ تعريفا بسيطا جدّا لكلمة ” الخلق ” ؛ كي نفهمَ وندركَ معنى الكلمة ، لئلا نتشتّت . وهذا التعريف أقتبسه من أساقفة فرنسا : الخلق ، هو كلمة نحبّ أن نطلقها على كلّ حقيقة نابعة من مشيئة الله سواء كانت حقيقة وجودنا أو حقيقة ما حولنا . الخلقُ : لا تشير هذه اللفظة إلى نقطة الصفر ، أو إلى الحركة الآولى ، وإذا ما دلّت على أصل زمنيّ سحيق فإنّها بالأحرى ، العلاقة الحالية القائمة مع اللامرئيّ ، أي الكائن الذي لا يراهُ أيّ وجود يشكل العالم كلّه في حقيقته وديناميّته . الخليقة موجودة وممنوحة في الواقع لنفسها : ليستْ الله ، كما أنّها ليست جزءًا منه . ولكنّها ليست موجودة كولد ٍ ترَكَه أبوه : ” إذ هو يعطي للجميع حياة ونفسًا وكلّ شيء .. في الواقع أنه ليس بعيدًا من كلّ واحد منّا ، فإنّا به نحيا ونتحرّك ونوجد ” (أعمال 17 : 25 – 28 ) .
في البداية خلق
خلق ، هو فعل خاصّ بالله . هذا ما يُنشده أشعيا ويُكرّره . يطرح السؤال على المؤمن وعلى اللامؤمن الذي قد يسمعه :” أما عرفت ؟ أما سمعتْ أنّ الربّ إلهٌ سرمديٌّ ، خلقَ الأرض بكاملها ” أش 40 : 28 . لا شكّ في أنّ هناكَ إستعمالا للفظ ” الخلق ” على مستوى الشعراء والفنّانين والمبدعين . ولكنّ الإنسان ، لم يكن لـيخلق ، ليُبدع ، لو لمْ يكن على ” صورة الله ” ومثاله . علمُه من الله ، معرفته من عنده وحده . حينَ خلقه ، ميّزه عن النبات والحيوان ، ميّزه عن الخليقة كلّها ، بل جعله يسودها باسمه .
إنّ الفصول الآولى لسفر التكوين ، هي بنت زمانها ، إنها نتاجُ ثقافة زمان معيّن ، هذه الثقافة نحنُ قد تجاوزناها . من جهة أخرى ، في هذه النصوص – كما في كلّ نصّ – هناكَ نظرة معيّنة للإنسان على ما يُحيط به وعلى الله . فالمعطيات لها تسلسل وترتيب معيّن أستقوها من علماء وحكماء زمانهم ، وأضافوا إليها ” عُمقــــًا ” ومحاولة لفهم الإنسان والعالم : محاولة تشتملُ الحاضر والماضي والمستقبل . ومحاولة وصف العالم هذه ، تريدُ أن تقول لنا ، إن قبل وجوده ، كان وجود آخر . تأكيد هذا الوجود قد ينساه أو يتناساه معاصرونا .
الله بين خلقه الكون وخلقه الإنسان
ما يسترعي إنتباهنا في روايتي الخلق ، أنّ بين خلق الله ” الخليقة ” وخلقه ” الإنسان ” ، فرقا شاسعًا قصده الكاتب المُلهَم . سنرى قبل أن نتطرّق لموضوع ” خلق الإنسان – لنعمل الإنسان على صورتنا ومثالنا ” ، ما المعاني الجميلة لتعبير : ” إنّ الله خلق الكون بــ الأمر ، كُنْ .. فكان ” . في حين سنرى، لاحقا ، أنّ خلق الإنسان هو بــ ” التشاور ” ( لنصنع الإنسان على صورتنا ) . وسنستنتج من ذلكَ بعض المُعطيات الأنثروبولوجيّة البالغة الأهميّة .
أوّلا : خلق الكون بـ ” الكلمة ” … لقد خلقَ الله الخليقة الماديّة بالأمر : ” كُنْ .. فكان ” (تك 1 : 3 )
والمزاميرُ رنّمت بتواتر كبير هذه الظاهرة ، نذكرُ على سبيل المثال لا الحصر : ” فلتُسبّح الخليقةُ إسمَ الربّ ، هو أمرَ فخُلِقَتْ ، أقامها إلى الدهر وإلى الأبد ، سنّ سُنّة لن تزول ” ( مز 148 ) . وما يُذكَر ، أنّ كلمة الله فعّالة دائمة ؛ إذ تُحقّق كلمتُه ما تقوله وتقصده . ويتمُّ فِكره إلى واقع . وتسبق ، بالتالي ، مشيئته الخليقة التي تخرجُ ” من العدم ” ( باللاتينيّة Ex nihilo) ، بناء على أوّل ما ورد بهذا الشأن في 2 مك 7 : 28 :” أنظر إلى السماء والأرض ، اِعلم أنّ الله صنعها من العدم ” . لا يُستنتَج الخلق ” من العدم ” إنطلاقا من رواية الخلق التي نحنُ في بصددها ، ذلك بإنّ عمليّة الخلق هي تنظيمٌ للخواء ( كانت الأرض خاوية خالية .. تك 1 : 2 ) ، أكثر منه خلق ” مِن العدم ” . إنّ تنظير ” العدم ” يعودُ إلى كِتاب المكابيّين الذي حاوَر الثقافة الهلينستيّة في القرن الثاني قبل الميلاد .
يتبع
زينيت