لا تتوقف البدع عند العقيدة فقط ؛ بل يمتد انحراف شطحاتها إلى ظواهر منحرفة تخالف التسليم الرسولي وصورة التعليم الصحيح التي عاشها ونقلها الآباء الأولون… بمعنى أن هناك أمورًا غريبة وسلوكيات غير مألوفة الاتباع ، تكرارها يجعلها قاعدة بالتقادم… وأرى أنها تتسلل إلينا بسبب الأهواء والأمزجة (النفسنة) التي يتبعها من ينقلون التخم القديم الأصيل ؛ بدعوة التطور واللاطائفية وتبديل الأرثوذكسية بأرثوذكسية (مُهَجَّنَة) ؛ معتمدين على استخدام أجوبة قالبية سابقة التجهيز؛ وهي في جملتها انتقائية وتلفيقية مبتورة.
لقد كثرت حركات تمردية لتجمعات مغلقة بمسميات تُحاكي عالم السياسة الشعبية ؛ تتسم أطروحتها بمفردات النقد الهدام والتجريح والإهانات المرسَلة ، وكذا محاكمة الأفكار والنوايا وتقييم ذوﻱ الأمجاد ، والتطاول على مقامات ومرجعيات ؛ كان لها أن تكرَّم وتُذكَر بالخير والوفاء وطلب الرحمة.
فهل مثل هكذا طريقة يمكن ان تصب في البناء والامتداد والتعميق والوحدانية؟!! لااعتقد بعد ان صارت هذه الحركات مادة خصبة وصفراء يتبادلها كل من يحاول هدم صيت وسمعة مسيحيي هذا الزمان ، بكل تفريعاتهم… فلنراجع انفسنا في كل شئ ليكون لمجد الله ، والكرازة باسمه !! حيث بوصلتنا ان نكون رائحة زكية وأنوار وسفارة تعظ عن المسيح؟!! ..هل هذه صورة الكنيسة التي نرجوها في زمن اضطهاد صعب وحرق وإمحاء؟!! كيف يتمجد الله بدون المراجعة والمخافة الروحية واحترام خيارات الناس وسُمعتهم وكراماتهم وخصوصياتهم الإنسانية؟! من المستحيل اعتبار الشائعات ونشر المذمات والعثرات والصغائر والاسقاطات والتجاوزات نقدًا حرًا بنَّاءًا أو إصلاحًا؟! فضلاً علي وجود حركات سرية تتحين الفرصة لنشر وترويج أخبار ضد السمعة الشخصية والجماعية للأشخاص والكنيسة (ضد الكنيسة / anti – Church ضد الأسرار / anti – Sacramental ضد الإكليروس
( anti – Clerical.
وتنتشر حوارات إنترنتية وإعلامية في جرائد وفضائيات تطعن في عقيدة الكنيسة وتطالب بمحاكمات لأحياء بل ولراقدين أيضاً… وجميعها تدَّعي لنفسها الحق الغيور المطلق دون غيرها ؛ بل وتدَّعي أنها أكثر فطنة وصوفية وتأصيلاً من الكنيسة بكل طغماتها ووسائل قوانينها ؛ بينما هي تأتي في سياق علامات الأزمنة ونهاية العالم ومظاهر التفكك والانسلاخ من الجذور ، والانحطاط القِيَمي والتناقضات الجوهرية التي تتجمع وتتقمص في نمط سوبر ماركت للأديان (كوكتيل).
إن روحية الكنيسة الأولى لا تعرف الفوارق الطبقية أو الحواجز بين أعضائها ؛ فكل شيء تتم مناقشته وحَلُّه بالحوار والإقناع لبلوغ الفكر المشترك.. لهذا يقول معلمنا بولس الرسول أيجرؤ أحدكم ؛ إذا كان له شيء على غيره ؛ أن يقاضيه لدى الفُجَّار (أﻱ الوثنيين) ، لا لدى القديسين؟؟! وهل يتجاسر أحد أن يتقاضى عند الظالمين وليس عند القديسين ؛ بينما هم سيدينون العالم؟؟! فكم بالأولى أمور هذه الحياة؟؟! (١ كو ٦ : ١).
إذن كيف نحن نذمُّ الكنيسة؟!! وكيف نخوِّنها؟؟! ونهينها في الإعلام والمنتديات وفي المحاكم؟؟! أن يقاضي أحد الكنيسة مدنيًا ؛ فهذه قطيعة ومخاصمة ؛ أفَهَل الأمر القسرﻱ في علاقتنا أقوى من الرباط الإلهي والعضوﻱ الروحي؟؟! فلتكن أمورنا برحمة وتدبير وعدل من جهة الكنيسة ، ولتكن بمصارحة وانفتاح واحترام للعقول والنفسيات والظروف التي نحياها جميعًا ؛ كي لا تتدخل بيننا الأمم ؛ لأننا منظرٌ لله وللعالم والملائكة.. أمورنا تُحل بالمعالجة الرعوية الحكيمة المتبصرة التي تدبر بتواضع وضمير ؛ لا بالتسلط والتسيُّد أو التأجيل وغضّ الطرف.. وكلما تحاورنا بتعقل وانصهار ؛ ازددنا حكمة وحبًا وقبولاً، أما التشنج والذمّ والتخبط فلن نجني به إلا هُوَّة التباعد والخسارة….لن تنصلح امورنا التي تحتاج الي معالجة بالتشنيع ولا بالمهانات والتطاول لكن باقتناء ثمار الروح وبالانصات العملي لما يقوله الروح للكنائس .
الشيطان يقال له باليونانية Διαβολος (ذيافولوس) أﻱ الذﻱ يقسِّم الناس ، ويزرع الفتنة والظنون الخدَّاعة والتحزبات ؛ كي يغلق علينا ويُبعدنا عن المحبة والبساطة وشفافية المصالحة التي هي عصب المسيحية وروحها ؛ التي ننطلق بها إلى إبداء الرأﻱ دون جهل بالأمور التي نُبدﻱ فيها آراءنا ؛ لأنه كيف يتسنَّى لنا أن نتحاور في أمور لا عِلم لنا ولا دراية بجوانبها؟! وكيف أُدلي برأيي وأنا لستُ لا عابدًا ولا مصليًا ولا خادمًا ولا مطَّلعًا ولا عارفا ولا قارئًا ولا ملتزمًا بشيء… حيث الانتقادات الجاهلة تهدم ولا تبني ، وتدفع صاحبها للتحيز إلى وقائع كاذبة مبنية على الوشاية والإشاعة والوقيعة المغرضة… إن كان لنا شيء نريد قوله أو عمله ؛ مميزين متى وكيف ولِمَنْ وأين نطرحه؟! لأنه لا يقدر أحد أن يبني إلا الذﻱ يسعَى للخير لا للهدم… فأمينة هي جراحات المحب وغاشة هي قُبُلات العدو. كذلك علينا أن لا نردد كل ما نسمع أو حتى كل ما نعرف ؛ لأن ليس كل ما يُعرَف يقال ، ولأننا سنعطي حسابًا عن كل كلمة بطَّالة ليست للبنيان.
متى تكلمنا بغيرة وفهم ؛ ستكون آراؤنا مملَّحة بملح الروح وبالأدب المسيحي المقترن بالمحبة وعدم المذمَّة؛ لأن مُشِيعُ المذمَّة جاهل ، أمَّا الحكيم فيقطِرُ عطرًا (أم ١٠ : ١٨). لقد قال لي أحد زملائي الكهنة في كنيسة الروم : الكنيسة ليست فَشَّة خُلْق ، لمن يعاني شجارًا وانقسامًا ومخانقة بنفسه ، ووصية المحبة والاحتمال هي للجميع وليست لطرف من دون الآخر ، والوصايا هي للجميع ، وليست انتقائية لتوظيفها في سياق نريده فقط للاستعمال.
لذلك كل إصلاح لا بُد أن يتم بوداعة المسيح من غير تشنيع ومكابرة إبليس المخرب ، الذﻱ يشتكي علينا وعلى إخوتنا نهارًا وليلاً .. كي نرحم ونقبل بعضنا بعضًا ، ونستر ذنوب بعضنا… ليس بالسكوت والتخاذل ؛ لكن بالمساهمة في السعي الإلهي بلا دمدمة ولا صخب ؛ لأن الصخب والبلبة كانت في بابل ؛ بينما مسيحنا أتى إلينا ليجمعنا ويوحدنا ويضمنا لنكون في عِلِّية صهيون كنيسته الطاهرة، التي لا خلاص لأحدٍ خارجها ، وهو الذﻱ يُسكِن المتوحدين في بيت واحد ؛ بما فيهم من حنطة وزوان ، سمك جيد وردﻱء ، خراف وجداء ، كائنات طاهرة وغير طاهرة ، آنية من ذهب وفضة وخشب وخزف.
لنتَّعظ جميعًا من حادثة برج بابل الكتابية التي قام فيها نمرود ومن معه بسبب كبريائهم ببناء البرج ؛ ظانين أنهم سيبلغون بتشامخهم رأس السماء ؛ مناطحين السحاب ؛ ففقدوا الوحدة الجامعة ؛ وانقسمت وتبلبلت ألسنتهم ثم تبدد الناس على وجه الأرض ؛ لأنهم عاندوا ولم يفهموا لغة الروح ، واتبعوا لغة مضادة ، وبدلاً من أن يتجنبوا الشر والشرور ؛ تعاظموا.. وحقًا “قبل الكسر الكبرياء ؛ وقبل السقوط تشامخ الروح” (أم ١٦ : ١٨).. فهكذا عوقبت الألسنة ؛ لأنها كانت أداة التشامخ والاستعلاء ؛ ولم يفهم الناس بعضهم فانفضُّوا منقسمين ؛ وفرَّق الله ألسنتهم (مز ٥٥ : ٩) ، أما نحن فمدعوون أن نترك بابل ونأتي إلى عِلِّية الوحدة والاتفاق الصالح.
القمص أثناسيوس فهمي چورچ
كاهن كنيسة الشهيد مارمينا – فلمنج – الإسكندرية