تخصّص الكنيسة الأرثوذكسيّة الأحد الثالث من الصوم الكبير، أي الأحد المقبل، للسجود للصليب المكرَّم. والصليب هو الرمز الأسمى للمسيحيّة، والإشارة التي تميّز المسيحيّين عن بقيّة المؤمنين بالله. فتراهم يتزيّنون به، ويتقلّدونه في أعناقهم، ويرفعونه شعارًا لهم في بيوتهم وسيّاراتهم وأماكن عملهم وحيث تسمح لهم الظروف. أمّا الأساس الذي يبني عليه المسيحيّون افتخارهم بالصليب فيعود إلى كون يسوع المسيح قد اتّخذ صفة الفادي أو المخلّص بعد أن صُلب وقام من بين الأموات. فالصليب الذي أراده قتلة يسوع أداة تعذيب وإعدام تحوّل بفضل قيامة المسيح إلى إداة للخلاص والحياة الأبديّة.
لا ترى الكنيسة الصليب في معزل عن يسوع المسيح، بل هي تماهي بينهما. وحين تخاطب الكنيسة الصليب في شعائرها لا تخاطب الخشب أو الذهب، بل هي تخاطب الذي صُلب عليه. فالمسيحيّة ليست ديانة تمارس عبادة الأوثان أو الأصنام، ولا تدعو إلى عبادة ما دون الله، وليست هي ديانة مشركة. لذلك، يقول اللاهوت المسيحيّ بتكريم الصليب لا بعبادته، فالعبادة لا تليق إلاّ بالله وحده. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأيقونات المقدّسة التي يجوز إكرامها ولا تجوز عبادتها إطلاقًا. ولسنا في هذه المقالة في وارد استعادة الجدل المسيحيّ الإسلاميّ في شأن الصليب، الجدل الذي عمره من عمر الإسلام، بل التذكير بما تقوله المسيحيّة عن معتقدها بالصليب.
بيد أن المسيح دعا تلامذته قبل تسميره على الصليب إلى الاقتداء به إذ قال لهم: “مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مرقس 8، 34). ثمّة أمران متلازمان في هذا القول يدعو إليهما يسوع هما الكفر بالنفس وحمل الصليب. أمّا الكفر بالنفس، والكفر هو نقيض الإيمان، فمعناه إخلاء النفس من كلّ ما تشتهيه في هذه الدنيا، ولكن أيضًا عدم تصديق ما تزيّنه النفس للمرء من مقدّرات ذاتيّة تجعله يستكبر ويستعلي على سائر الناس. فتكون الدعوة إلى الكفر بالنفس دعوة إلى التوحيد الإلهيّ، فلا يؤمن المرء بنفسه جاعلاً منها صنمًا يعبده. عبادة الذات هي المدخل إلى الخطايا كلّها.
أمّا دعوة المسيح أتباعه إلى حمل الصليب فليست دعوة إلى عرض الصليب مادّيًّا وظاهريًّا في كلّ مكان متاح، بل الدعوة هنا إنما هي إلى حمل الصليب رمزيًّا عبر ما يمثّله الصليب من معاني سامية. ومن أبرز هذه المعاني المحبّة والبذل والعطاء والتضحية بالذات من أجل أن يحيا الآخر. أن يحمل الإنسان الصليب يعني أن يحمل أوجاع الناس وهمومهم، أن يحبّهم مجّانًا، أن يرضى بإخلاء نفسه إلى الأقصى كما أخلى المسيح نفسه إذ صار إنسانًا، وليس أيّ إنسان، بل عبدًا بلا حقوق طائعًا حتّى الموت، “موت الصليب” كما يقول الرسول بولس (فيلبّي 2، 6-11).
لا يسع أحدًا أن يكون تلميذًا ليسوع ويغفل عن أداء وصيّة الصليب، “فليس العبد أفضل من سيّده” (يوحنّا 13، 16). ولسنا لندين أحدًا نقول هذا الكلام، وليس لنا في هذا المقام أصلاً. لكن في سياق ما يجري في البلاد العربيّة راهنًا، من حروب تلبس لباس الأديان والمذاهب أدّت في ما أدّت إليه إلى تهجير للمسيحيّين من أماكن سكناهم، منذ مئات السنين، وبخاصّة في العراق وفلسطين وسوريا، لا بدّ من وقفة تذكّر المسيحيّين بشهادتهم الحقيقيّة وهي أنّهم حملة صليب دائم، بالمعنى الذي دعا إليه المسيح، وعليهم ألاّ يتخلّوا عن هذا التحدّي.
ليست دعوتنا هنا دعوة إلى الخنوع والاستسلام لمصير حتميّ يؤدّي إلى زوال المسيحيّة من المشرق الذي وُلدت فيه. هي دعوة إلى الصمود بالحقّ والتمسّك بالقيم المسيحيّة والمقاومة المنسجمة مع الروح الإنجيليّة الوادعة. ولنا في التاريخ دروس وعِبر كثيرة، فالمسيحيّة الأولى انتشرت بفضل الشهداء، وحين أصبحت المسيحيّة دين الدولة الرسميّ انتكست. أمّا المسيحيّة العربيّة فاستمرّت على الرغم من بقائها خارج الدولة والحكم.
ترفع الكنيسة الصليب في وسط الجماعة وتسجد له، كي تذكّر المؤمنين بالهدف الأسمى للصوم، وهو حمل الصليب بفرح وشوق إلى لقاء المسيح القائم من بين الأموات. وبكلام آخر، ترفع الكنيسة الصليب لتقول مع الرسول بولس: “وأمّا من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم… لأنّي حامل في جسدي سمات الربّ يسوع” (غلاطية 6، 14-17).
ليبانون فايلز