كتب شربل مارون في الجمهورية بتاريخ 14 آذار 2022
شكّل دور الإعلام في الشأن العام وحياة المجتمعات مادة نقاش مفتوح، وبات من الثابت انّ هذا الدور محوري، انطلاقاً من كون الإعلام يهدف الى التأثير في السلوك والممارسة. وبات هذا الدور أكثر حضوراً مع التطوّرات التكنولوجية الحاصلة، التي جعلت التأثير أكبر وأفعل. عرّف جبران تويني مؤسس صحيفة «النهار» الصحافة، بأنّها «قوّة لا تقلّ عن قوّة الأساطيل والجيوش»، وقد سمّاها روبير دو جوفنيل «السلطة الرابعة في الدولة، على اعتبار التقسيم البرلماني الذي جعل سلطات الدولة ثلاثاً: السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية، ثم السلطة الصحافية، وهي خارجة عن التقسيم البرلماني قانوناً، وإن تكن منتسبة اليه عرفاً». ويرى عدد من الباحثين في شؤون الإعلام، انّ الإعلام عموماً صار السلطة «إكس»، لأنّه في حالات كثيرة يتقدّم على السلطات الأخرى لجهة تأثيره وفعله الكبيرين.
صارت وسائل الإعلام اليوم صاحبة دور محوري في تكوين الرأي العام، يلجأ اليها العاملون في الشأن العام ومختلف المؤسسات والأفراد في القطاعين العام والخاص والناس العاديون الساعون الى التواصل والتأثير. باتت «الحقيقة» هي تلك التي تصنعها وسائل الاعلام، ومنها تتكوّن الآراء والممارسات. ويعوّل كثيرون على دور هذه الوسائل في تحقيق الخير العام وتعزيز الحكم الرشيد. ويشير البابا فرنسيس في هذا المجال، الى وجود علاقة وثيقة بين الإعلام وهذا الخير.
والتحدّي الأكبر امام أصحاب وسائل الإعلام، كيفيّة المحافظة على قدر معيّن من الإستقلالية والتحرّر الإقتصادي والسياسي، بما يتيح لهذه الوسائل صيانة كرامتها الذاتية والقيام بدورها لجهة تحقيق هذا الخير. وذهب البعض الى حدّ القول، انّ الإعلام هو رواية الحقّ حتى يُعرف، مركّزين على الدور الرسولي له. ومن البديهي القول انّ الحرية شرط واجب لقيام الإعلام، اذ لا إعلام من دون حرية، وكذلك لا حرية من دون إعلام.
ويعتبر رئيس تحرير صحيفة «الجمهورية» جورج سولاج، «انّ تأثير وسائل الإعلام في عملية بناء الحكم الرشيد امر مستحيل في بلد كلبنان، بسبب التركيبة القائمة»، موضحاً «انّ عمل وسائل الإعلام اليوم تعترضه صعوبات كثيرة في ظلّ الأزمة الإقتصادية وغياب التمويل وتراجع مردود الإعلانات بنسبة 90 %»، مشيراً الى «انّ وسائل الإعلام تخوض معركة وجود».
الواقع اللبناني السائد
يرخي النظام السياسي القائم بظلاله على الواقع الإعلامي الموجود. ويرى سولاج، «انّ الإعلام في لبنان لا يشبه أي نموذج في العالم. فحرّية وسائل الاعلام موجودة، لكن لا يمكن القول انّ جميع وسائل الاعلام حرّة». والواقع انّ عدداً من وسائل الإعلام تتمتع بالإستقلالية وتمارس دورها بحريّة نسبيّة، في حين انّ وسائل إعلام اخرى تملكها احزاب وتيارات وشخصيات عاملة في الشأن العام، مما يشكّل تقييداً لحريتها».
ويدافع عاملون في الحقل الإعلامي عن حق الأحزاب والتيارات في امتلاك وسائل اعلامية، باعتبار انّها من مكوّنات المجتمع، رافضين شيطنة الأحزاب في هذا المجال.
ويبقى تمويل الإعلام اللبناني موضوعاً مطروحاً منذ عقود طويلة. وعبّر عنه الرئيس الراحل شارل حلو بصراحة، عندما رحّب بأعضاء مجلس نقابة الصحافة عند زيارتهم قصر بعبدا بعد انتخابه قائلاً: «اهلاً وسهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان!»، غامزاً من قناة تمويلهم من وطنهم الأول.
وحتى اليوم، تقوم مؤسسات إعلامية عديدة على تمويل سياسي داخلي او خارجي، يسدّ الثغرة الموجودة بين النفقات والإيرادات الناتجة من العمل الإعلامي البحت.
1 – إنتشار وسائل الإعلام الإلكتروني: شكّلت طفرة انتشار المواقع الإلكترونية الإخبارية ظاهرة في لبنان. ويبلغ عدد هذه المواقع اليوم حوالى 1700 موقع، بحسب وزير الإعلام السابق جورج قرداحي. وغالباً ما تقوم المواقع على مبادرات فرديّة تجعلها ضعيفة التأثير في المشهد العام. لكن البعض منها فاعل بقوّة وبكلفة تشغيليّة مقبولة، مقارنة بنفقات وسائل الإعلام التقليديّة. ويعادل ثمن النسخة الورقية من الصحيفة اللبنانية حوالى 10 سنتات من الدولار الأميركي، وهو ثمن لا وجود له في أي دولة في العالم. كما انّ كلفة الإنتاج التلفزيوني والإذاعي باهظة جداً في ظلّ الأزمة الإقتصادية التي يعيشها لبنان.
2 – حضور وسائل الإعلام التقليدية: حافظت وسائل الإعلام التقليدية، لا سيما التلفزيون، على حضور قوي في المشهد الإعلامي اللبناني. وتتوزّع هذه الوسائل بحسب ملكيتها بين وسائل مستقلة وأخرى تملكها الأحزاب والتيّارات والشخصيّات السياسيّة، اضافة الى وسائل تعود ملكيتها إلى مراجع اقتصادية ومالية.
وأظهرت دراسات إعلامية بحثية، انّ التلفزيون لا يزال المصدر الأول للأخبار بالنسبة الى غالبية اللبنانيين. كما انّ الإذاعة والصحف اليومية، التي استفادت من الوسائل التكنولوجية الحديثة، لا تزال صاحبة دور فاعل ومؤثر كمصدر إخباري عند اللبنانيين.
3 – ضعف المتابعة لما تطرحه وسائل الإعلام: يعمل العديد من الوسائل الإعلامية على إعداد مواد إعلامية هي بمثابة إخبارات برسم القضاء، عن قضايا فساد موثّقة بمعلومات وشهادات. لكن الغريب، انّ غالبية هذه المواد بقيت من دون متابعة، ولم تتحرّك المراجع القضائية المعنية لإجراء المقتضى. ويعكس ذلك الواقع السياسي العام وتأثيره في الحقل الإعلامي، بحيث يصبح دور الإعلام محدوداً لا يتجاوز حدود الإعلام والإبلاغ، لا يصل الى حدّ تغيير الواقع الى الأفضل، كما هي الحال في الدول الديموقراطية.
4 – ترهّل البنى الإعلامية: أصاب الترهّل عدداً من المؤسسات الأساسية التي تُعنى بأمور الإعلام كوزارة الإعلام، والمجلس الوطني للإعلام ونقابتي الصحافة والمحرّرين. وصار من الواجب إعادة النظر في وجود البعض منها وتحديد دور جديد فعّال للبعض الآخر يبرّر وجودها.
كما انّ قانون الإعلام المرئي والمسموع الموضوع في العام 1994، تجاوزته التطورات الهائلة التي طرأت على الإعلام، ومستجدات الواقع اللبناني، ما يفرض إدخال تعديلات جوهرية عليه. كما هناك غياب لأي تشريع يتناول وسائل الإعلام الإلكترونية.
دور الإعلام في تعزيز الحكم الرشيد
يلعب الإعلام دوراً محورياً في إبراز ممارسات الحكم الرشيد وقواعده، من خلال التالي:
1- التوعية والترويج: يشكّل دور الإعلام لناحية التثقيف والإرشاد، واحداً من ادواره الرئيسة. وفي سعيه الى تقديم الخير العام على المصالح الخاصة والفئوية، يعمل على نشر مفاهيم الحكم الرشيد والإضاءة على المنافع التي توفّرها للمجتمع.
2- تشكيل صلة وصل بين المعنيين: توفّر وسائل الإعلام ساحة لقاء للأفرقاء المعنيين بقضيّة او موضوع معيّن، وتؤمّن ارضاً للنقاشات وتبادل الآراء، بما يعزّز المشاركة خصوصاً متى توفرّت الشفافيّة المطلوبة.
3- احترام حقوق الانسان: للإعلام دور فاعل في ضمان الحقوق البديهية للإنسان ومنع أي انتهاك لها. وهذا هو جوهر الحكم الرشيد لجهة كونه وسيلة لمساعدة الإنسان في الحفاظ على حقوقه وصيانتها.
4- احترام القوانين: من واجب الإعلام ان يعمل على إقامة دولة القانون والعدالة، وتشجيع الناس على التزام القوانين التي تمنع الظلم والإستبداد، وتوفّر وسيلة ناجعة للحفاظ على الحقوق.
5 – كشف ملفّات الفساد: يهدف الإعلام الإستقصائي الى كشف الحقيقة، لا سيّما ملفات الفساد. وفي الدول الديموقراطية لا يتمّ الإكتفاء بمقولة «الإعلام للإعلام» بل تشّكل المادة الإعلامية إخبارات وبلاغات تُحرّك القضاء وأجهزة الرقابة والمحاسبة. وفي لبنان، غالباً ما تبقى قضايا تتعلّق بالفساد من دون اي متابعة بعد إثارتها في وسائل الإعلام. وعلى سبيل المثال، مخالفات سوليدير، ومناقصات قطاع الكهرباء، لا سيّما استيراد البواخر التركية، والتصرّف بالمال العام، والسياسات المالية التي ادّت إلى الدين العام ولاحقاً إلى الكارثة الإقتصادية.
6 – ضمان حقّ الوصول الى المعلومات: تشكّل المعلومات سلاحاً فعّالاً في الرقابة والمحاسبة. وكرّست الدول الديموقراطية هذا الحق على مستويات مختلفة، تبدأ بوسائل الإعلام والعاملين فيها وصولاً الى المواطنين.
وفي لبنان، شكّل إقرار مجلس النواب قانون الحق في الوصول الى المعلومات في 10 شباط 2017 محطّة مفصليّة في إرساء واقع جديد يتيح تداول المعلومات بحريّة وشفافية اكبر.
وفي 30 حزيران 2021 أقرّ المجلس القانون التعديلي لقانون الحق في الوصول الى المعلومات، ممّا سمح بسدّ الكثير من الثغرات التي كانت تتذرّع بها الإدارات العامة لعدم التجاوب مع طلبات الحصول على المعلومات.
وترافق ذلك مع خطوات اخرى أساسيّة منها:
– صدور المراسيم التنفيذية للقانون عن وزارة العدل.
– صدور الخطة الوطنية لتطبيق لقانون.
وعلى الرغم من هذا الإنجاز، فإنّ عدداً كبيراً من الإدارات والمؤسسات العامة، بينها رئاسة مجلس الوزراء، لا يتجاوب مع طلبات قضائية للحصول على معلومات محدّدة. والحال نفسها توجّهها وسائل الإعلام في عملها.
اقتراحات لتفعيل دور الإعلام في إرساء الحكم الرشيد:
يفترض وجود وسائل إعلام صحيّة في مناخ عام صحّي حتى تلعب هذه الوسائل دوراً فاعلاً في تعزيز الحكم الرشيد. ومن الأمور الواجبة في هذا المجال:
1- إستقلالية وسائل الإعلام: وهو أمر صعب التحقيق على ارض الواقع. فغالبية وسائل الإعلام مملوكة من جهات وأطراف لها مصالحها وأجنداتها، وتمويلها من خلال الإعلانات التجارية والعمل المهني البحت شبه متعذّر. وزادت الأزمة الإقتصادية الكبيرة في لبنان من المعاناة والصعوبات التي تعيشها وسائل الإعلام.
ومع ذلك، يجب العمل على توفير مصادر إضافية للدخل في هذه الوسائل، تستند الى بيع او عرض المنتوجات الإعلامية، بما يسدّ الفجوة القائمة بين الإيرادات والنفقات.
انّ ارتفاع منسوب الاستقلالية لدى هذه الوسائل يقود حتماً الى زيادة تحرّرها وتعزيز دورها في دعم ممارسات الحكم الرشيد، مع الإعتراف بصعوبة خروج وسائل الإعلام من واقعها والتزاماتها وارتهانها لجهات مموّلة.
2- تعزيز حريّة التعبير: ينبغي إقرار التشريعات القانونية اللازمة التي تكفل حريّة وسائل الإعلام في ممارسة دورها وتعزّز الحريات الفردية وتحدّ من الملاحقات القانونية المرتبطة بالتعبير عن الرأي.
كما يجب على السلطة التنفيذية ان توفّر المناخ اللازم لممارسة هذه الحرية. وتلعب هيئات المجتمع المدني والمؤسسات الإجتماعية والثقافية والتربوية دوراً في تأمين هذا المناخ.
3- الإستثمار في وسائل الإعلام الحديث: تدلّ الوقائع والمعطيات انّ كلفة المادة الإعلامية المنتجة على وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيّما المواقع الالكترونية، لا تُقارن بكلفة المادة المنتجة في وسائل الاعلام التقليدية.
صار الإعلام الرقمي اليوم إعلاماً بديلاً عن الإعلام التقليدي، وهو ما ساعد في تطوّر القطاع الإعلامي.
وبالتوازي، يجب العمل على إقرار قانون لتنظيم الإعلام الرقمي للمحافظة عليه وحمايته.
4- تفعيل وسائل الإعلام العام: يمكن لتلفزيون لبنان والإذاعة اللبنانية والوكالة الوطنية للإعلام، ان تلعب دوراً أساسياً في تعزيز الحكم الرشيد. وينبغي ان تنتقل من واقع انّها «وسائل إعلام رسمية» لتصبح «وسائل إعلام عامة» تنطق بإسم اللبنانيين وتعبّر عن مشاكلهم وتطلعاتهم، بدل ان تكون صوت السلطة والحكّام، تغطّي نشاطاتهم وتنقل وجهات نظرهم.
ويجب على الإعلام العام ان يكون حاضراً في حقل الإعلام الجديد، وان تكون المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الإجتماعي وسيلة من وسائل العمل.
5- إدارة فعّالة للتنوّع الإعلامي اللبناني: لا يمكن الإستمرار في المشهد الإعلامي القائم على ترهّل البنى الإعلامية. وهذا يستوجب التفكير بإدوار كل من وزارة الإعلام والمجلس الوطني للإعلام والنقابات المهنية. واستقرّت المراجعات في الدول الديموقراطية على إلغاء وزارة الإعلام وإعطاء المجلس صلاحيات كبيرة تتيح له وضع استراتيجية إعلامية وطنية، والسهر على تطوير عمل المؤسسات الإعلامية في جو من الحريّة.
ويختصر الرسم البياني التالي الخطوات المطلوبة لتفعيل دور الإعلام في إرساء الحكم الرشيد: