أليست بـ مغامرة جسورة أن يفكّر الإنسان في أن يتناول الطوباويّ “أبونا يعقوب” بـ مقالة أو فيلم أومسرحيّة أو ندوة! ما يطيب لي الإقدام عليه وهي الكتابة في كثير من المواضيع التي يحلو فيها النقد والتحليل بنيّة التطوير والتحسين، يعذّبني بقدر ذلك الشعور بأنّ عدم المقدرة على تظهير سيرة وأعمال وإنجازات “أبونا” التي لا يمكن أن يتخيّلها بشر بأنّها عمل فرديّ إذ قد حقّق ما لم تستطع الدولة أن تحقق وبشّر وشهد للمسيح ما يساوي عمل كنيسة بما فيها من طاقات وإمكانيّات، وآمل ألاّ أكون مغاليًا بنظر البعض بينما الحقيقة أنني أشعر بأنّني ما زلت مقصّرًا في التعبير بالنسبة لما قرأت عنه ولما شهدتْ له أعماله وإنجازاته.
أبصر “أبونا يعقوب” النور في بلدة كسروانية عريقة حباها الله من الجمالات ما يرمز إلى الجنّة، تستند إلى سفح جبل وتنبسط على مدّ الآفاق، إطلالة شمسها صلاة وغروبها يحملك إلى ما بعد الزمن. هذه البلدة الشهيرة في تاريخ لبنان أعطت الوطن رجالاً يمرّ بهم التاريخ ولا يمرّ عليهم، وأملنا أن يتتوّج تاريخ هذه البلدة بهذه التسمية:
“غزير مسقط رأس أبونا يعقوب”
في تلك البلدة ولد خليل الحدّاد في أوّل شباط 1875 من والدين فاضلين بطرس وشمس، وقبل سرّ العماد المقدّس في 21 شباط من السنة ذاتها. هذه الحقبة في تاريخ الموارنة تذكّرنا بأجواء العيال المسيحيّة الملتزمة بالفضيلة والقداسة والصلاة التي كانت مشاتل للدعوات الرهبانيّة والكهنوتيّة.
سنة 1893 دخل خليل (أبونا) دير مار أنطونيوس خشباو للآباء الكبّوشيّين (حاليًّا هو مرْكز الرئاسة العامّة للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة) في الخامس والعشرين من شهر آب متّخذًا اسم يعقوب. سيم كاهنًا في 1 تشرين الثاني 1901 وأنشأ رهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين سنة 1908. لم يكن أبونا يعقوب وحده لأنّ يد الربّ كانت معه؛ وما إنشاؤه رهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين إلاّ البرهان الساطع للأهمّيّة التي كان يوليها للانفتاح على دور العلمانيّين ومساعدتهم كي يقوموا بدورهم في الكنيسة. أمّا الحدث الأهمّ في حياة “أبونا” فهو تأسيس جمعيّة راهبات الصليب وذلك في 8 كانون الأوّل 1930 التي سلّمها الأمانة وهو على قيد الحياة، فجعلها تنمو موفّرًا لها كلّ الأجواء المناسبة كي تتّكل على الله وعلى نفسها.
حمل “أبونا” الوزنات الوافرة التي وضعها الربّ بين يديه بكثير من التسليم للإرادة الإلهيّة واضعًا ذكاءه الحادّ ومواهبه المتعدّدة وعقله السليم في خدمة الإنسانيّة، ففاضتْ بِبركته الخيرات وبقي زاهدًا فيها.
رأى البؤس وتحرّكت مشاعره فألغى المستحيلات من قناعته وراح يُعدّ العدّة للمواجهة، فحفر الطريق في قلب الصخر غير متراجع وغير مبال بما يعترضه من صعوبات من الداخل والخارج. سمع صوت المعلّم الإلهيّ يقول له “تعال” فمشى على الأمواج غير مشكّك، مُبحرًا مع جمعيّته في عوالم:
– العجزة
– والمرضى
– والمهمّشين
– والمعاقين
– والمصابين بشتّى أنواع العاهات.
واضعًا لكلّ فئة منهم محطّة رجاء ورحمة وعناية.
انتصب “أبونا” جبّارًا بتواضع يضع الأساس لمراكز الإشعاع في كلّ لبنان. وما لم يتوفّر توزيعه في أيّامه استكملته جمعيّة راهبات الصليب بعده، وما زالت تستكمل وتستكمل بكلّ شجاعة، وبروحانيّة المؤسّس تجابه البؤس وتنتصر.
“أبونا” كان رائدًا ومثالاً في كلّ ما حقّقه من مؤسّسات إجتماعيّة وكلّها لا تبغي الربح وكلّها ذات منفعة عامّة. لست بوارد تعدادها بل أنا بوارد تأمّل الأفواج والأعداد الضخمة التي لقيت العناية في مستشفى الأمراض العقليّة ومستشفى مار يوسف ودور العجزة والمدارس والمراكز المتعدّدة الخدمات، ناهيك عن النشاطات التبشيريّة والعناية بالنفوس. هذه كانت همّه الأكبر نظرًا لِما ألّف وكتب وصلّى وصام.
أبونا يعقوب من أهمّ الشخصيّات التي عرفها عالم الخدمات الروحيّة والاجتماعيّة في عصره.
إنّه بدون شكّ رجل التحدّيات الصعبة: – الشيخوخة المهملة
– البؤس
– الضعف
– الإهمال
– المرض
كلّ ذلك في سبيل أنسنة الإنسان في لبنان وإعطائه حقّه في الوجود، وتحقيقًا لهذه القناعة كان مخلصًا مع ذاته ومع التزاماته، وعرف كيف يمكنه أن يكون حُرًّا… لأجل خدمة الله وخدمة القريب. أصبح رجل الحرّيّة فحُقّ له أن يكون عنيدًا في تصاميمه ومواقفه ومشاريعه غير آبه لِما يجلب الذكاء على صاحبه من انتقادات، وما تجلب الغيرة المتوقّدة من حسد يزرع الأقاويل والخرافات والافتراءات والتعدّيات وما شابه، وكلّ ذلك من ضمن درب الصليب التي يسير عليها المؤمنون.
رأى أبونا يعقوب حقيقة الحياة في الخدمة فتكرّس لها بدون أن يترك للتعب مكانًا أو للتأفّف منفذًا إلى قلبه، ضاربًا عرض الحائط بالفروقات بين الأديان والألوان والانتماءات وكلّ الاعتبارات التي تعوق مفهومه الكونيّ للإنسان الذي هو على صورة الله ومثاله.
عرف كيف يحبّ وكيف يجسّد الحبّ. تأمّل في الحياة وتأثّر بقدر الآلام التي تحملها:
– الآلام الجسديّة
– والنفسيّة
– والأدبيّة
فانبرى ينازلها ويصارعها بقداسة وبراءة وشجاعة ممتلئًا من نعمة الروح القدس ومن حضور معلّمه الإلهيّ الدائم في قلبه، فتحقّقت على يديه المعجزات وراح يربح المعركة تلو المعركة، وما زال حتّى يومنا من خلال الرسالة الملقاة على أكتاف بنات جمعيّته.
إنّ سرّ القداسة في كلّ ما عمل وقال أبونا يعقوب يكمن في قراءته الواضحة للعلامات التي كان يعطيها الله له. فأسّس على الصخر وابتعد عن الحفر في الرمل، لذا كان الروح يقوده فيجعل من الضعف قوّة ومن العوز بركة ومن الإهانة مفخرة، متقبّلاً كلّ شيء بكل رضى لإتمام مشيئة الله وتمجيده. انفتح ضميره على إيحاءات الروح، فكان يُقدم بخطوات ثابتة وصمت عميق متحلّيًا بما كان للأنبياء والرسل من ثبات واستسلام لإرادة العليّ. رسم لذاته ما رسمه الله له متأكّدًا بأنّ الإنسانيّة بأنماط تفكيرها لن تصل إلى الحقيقة بدون الله، ولن تصل إلى الله بدون محبّة القريب. قناعة لا تسمح لصاحبها بأن ينطوي على ذاته بل تدفع به إلى العناية الإلهيّة الحاضنة للوجود البشريّ بأسره. حيال الصعوبات التي كانت تعترضه كان يجثو ويصلّي وينتصر، ممتلئًا ديناميكيّة، متجدّدًا بالنعمة إذ بالحقيقة ما كان بوسعه أن يحقّق ما تحقّق لولا تواصل شخصيّته المصلّية والمتأمّلة والضارعة بشخصيّته المتحرّكة على كلّ الأصعدة تواجه الألم والضيق… لو لم تكن لـ “أبونا” مشاعر المشاركة الكاملة مع الذين أحبّهم لما كانت له القدرة على تقديس ذاته وتقديس الآخرين، وما كان له أن يكون (رجل العمل)… إنّ التزامه بهذا العمل الاجتماعيّ الجبّار هو تعبير عن شخصيّته المؤمنة بأنّ علىالمسيحيّين أن يتابعوا عمل المسيح الخلاصيّ، فيشفوا المرضى ويعزّوا الحزانى ويقيموا الموتى الغارقين في اليأس والعدوانيّة.
أبونا يعقوب ذاك الرجل الهادئ كان بركانًا يخضّه الروح فيجعله في غليان دائم. كان ممتلئًا من محبّة الله، مسكونًا بالألوهة، أُعطي موهبة الرؤيا البعيدة وسَبْر الأعماق. فهو رجل الصلاة والتأمّل ورجل العمل الاجتماعيّ من القلائل في الكنيسة الذين عملوا من مجتمعِ الموجعين والمتروكين ملكوتَ الأرض صورة ورمزًا لملكوت السماوات…إنّ الملكوت الذي أوجده أبونا يعقوب في حياته ما زال ينمو ويكبر ويتطوّر بفضل تضحيات الجمعيّة التي حملت، بكلّ تسليم لإرادة الله، اسمَ جمعيّة راهبات الصليب…
دولة في “أبونا” وكنيسة في “طوباويّ”…
ووطن بحماية العناية الإلهيّة. وطن الأديان والحضارات والتلاقي. لبنان.
بقلم الدكتور الأب جورج كرباج رحمه الله (ر.م.ل.)
زينيت