في التاسِعة من عُمره رأى يوحنا بوسكو حُلمِاً- رؤيا سيظلّ تأثيره راسخاً فيه طوال حياته. سيفهم الطفل الصغير تدريجياً بأن الربّ يسوع يدعوه إلى خدمة الشباب، فيُكرّس حياته كلّها لخدمتهم.
1- الحُلمُ-الرؤيا
إنَّ أوَّل ما يَشُدُّ الانتباه في الحلم-الرؤيا الذي رآه القديس يوحنا بوسكو هو طبيعَة الإِرسال، والمُرسِلُ، والمُرسَلُ، والمُرسَلُ إليهم، ومكان الإرسال. فالإرسالُ تَمَّ في الحُلم، والمُرسِلُ بحسب الحلم هو ابن المرأة التي علّمته أُمُّه أن يُلقيَ عليها التحيّة ثلاث مرّاتٍ في النهار؛ هو يسوع ابنُ مريَم المرأة ” ذات الطابَع الملوكي، المُلتَحِفةِ بثَّوبِ جميل يُشِعُّ كأَنَّهُ مُفعَمٌ بالنّجوم“، إِمرأةُ سفر الرؤيا:”…المُلتَحِفَةُ بِالشَّمسِ وَتحتَ رِجلَيها القمَر، وَعَلى رِأسِها إِكليلٌ مِن اثْنَي عَشَرَ كَوكباً“(رؤ12\1). والمُرسَلُ طِفلٌ في التاسِعة من عُمرِه لا يستطيعُ الكلامَ، وعاجِزٌ، بالتّالي، عن القيامِ بالمُستحيلات، ويُشبِه إلى حَدٍّ بعيد موسى. والمُرسَلُ إليهم:” فِتيانٌ يَضُجُّونَ وَيَعِجُّونَ ويَقذِفونَ مِن أَفواهِهِم شَتائِم قَبيحَةً وتَجاديفَ فَظيعَة“. ومكان الإرسال هو السّاحة:”هذه ساحتُك، هُنا مَجالُ عَمَلِك“.
2- السّاحة مكان التناقضات
السّاحة أو الأغوراagora ، هي مكان الأحاديث الصَّاخبة والسَّفسطة والتناقضات، حيثُ الجدالات العقيمة، وحيثُ كُلُّ شيء يختلِط في كلِّ شيء،: القمحُ الجيّد والزؤان، القِدّيسُ والشرير، فاعلُ الخير وفاعِلُ السّوء، حامِلُ حقيبة الكُتب وحاملُ حقيبة المُتفجّرات، كُلُّهم معاً في السّاحة، “يأكلون ويشربون، يَتزَوَّجُون ويُزَوِّجُون“(متى24\37)، وحضورهم معاً يُشبِهُ إلى حَدٍّ بعيد حضور الأسماك المئةَ والثلاثة والخمسين في الشبكة الواحدة(يو21\11)، ولنَقُل أيضاً حضور القمح والزؤان في حقلٍ واحِد(متى13\24-25).
والسّاحة الحاليّةُ، هي القريَة الكونيّة التي صنعتها التكنولوجيا الحديثة؛ حيثُ يُعبَدُ الثالوث: واتان، إلَه الحرب وشِعارُه الدبّابة، وأفروديت، إلهة الجنس وشِعارُها عُلَب الليل والمواد الإباحيّة، ومأمون، إله المال وشِعارُه البورصَة. لقد قدَّمت القرية الكونيّة، إضافَةً إلى التطوّرِ والإزدهار، آلهتما، ومهعم الكثير من البؤس والإنحطاط.
إلى هذه السّاحة دعا يسوع دون بوسكو ليُعيِدَ تنظيمها ونَضحها بالحُبّ الإلهي والإنساني، بحيثُ تصير مكانَ اللقاء بين الإنسان وأخيه الإنسان ومع الله، ومكان العمل لخلق الإنسان الحقيقي. وبهذا المَعنى تكشِف الرؤيا عن الضرورة القصوى لِعَملِ الإنسان، يوحنا بوسكو وكُلُّ واحِدٍ مِنّا، في هذه السّاحة، وبِخاصّةٍ مع الصبيان، الجيل الهشّ المُحتاج إلى منارة تدلُّه على طريق الخير والحقِّ والحُبّ، وعن الصورة الجديدة المدعوَّة إلى أن تصيرَ البشرية إليها. قالت السيدةُ الملوكيّة ليوحنا بوسكو: “تحلّى بصفات التواضع والثبات والقوّة، والذي ستراه يحدث لهؤلاء الحيوانات، عليك بعمله للأولاد. نظرت مرّة أخرى، ويا للدهشة! فقد تحوّلت الحيوانات البريّة إلى قطيع غنم وديع وأليف“.
للوهلة الأول يبدو العمل في هذه السّاحة صعباً، لا بَل مُستَحيلاً. إذ كيف لِطفلٍ أن يُعيدَ النِّظام الإلهيَّ إلى هذه الساحة المليئة بالوحوش، والتي تَسودُ فيها حالَةِ فوضى الخطيئة؟!. بالنُصحِ أَم بالتهديد؟ باللين والعَطفِ أَم بالقوَّةّ؟. يبدو أنَّ لا مكان للقوَّة والبطش والعنف في منطق الله. يقول يوحنا بوسكو:” حاولت أن أُسكتهم وأَردعهم بالنُصح ثم بالتهديد والضرب واللطم فلم يصغوا أليَّ ولم يرتدعوا. ثم شاهدت شيخاً جليلاً يدنو مني ويقول لي: ” إن شئت اكتساب صداقة هؤلاء الفتيان ومحبتهم فأرفق بهم ينقادوا إليك باللين لا بالخشونة”.
3- قُم واعمَل عمل الله في السّاحة
تدعونا الرؤيا اليوم إلى أن نتخطّى “قساوة القلب” المُعبَّرِ عنها باللامُبالاة تجاه الله والإخوة، وأن نُسرِع إلى القيام بِما يجب علينا القيام بِه تجاه البشريّة التي هي في حالٍ من فوضى الخطيئة. ففي الوقت الذي تكثُرُ فيه الشكّوك التي يُسَبِّبها المسيحيّون، وليس آخِرُها الإتجار بالبَشَر عبر الترويج “لِثقافة الأوساخ”، المُتجلّيةِ في الإعلام السّاقط وعُلَب الليل والدعارة والمُنبِّهات والمُخدّرات والمشروبات الروحيّة والموسيقى الصاخبَة والمبتذلة ولُعبِ المَيسَر، والسّعي إلى الإغتناء السريع ولَو على حِساب القيَم الدينيّة والإنسانيّة وحتّى الإنسان، وهَدم العائِلة، والإعتداء على الحياة البشرية عبر الإجهاض، والقتل والإرهاب والخطف المُنَظَّم، والفساد الأخلاقي والسياسي والإجتماعي والإقتصادي، نسمَعُ صوت الربِّ واضحاً يقول لكلِّ واحِدٍ منّا:” هذه ساحَتُكَ…هُنا مَجالُ عَمَلِكَ“…”تشَجّع، قُم، واعمَل ما بإمكانِكَ أن تعمَلَه، لكي تُحَوِّلَ الساحة إلى ساحة لله، ساحَةٍ يسود فيها السلام الذي يَقضي على الفوضى، ويَعِمُّ فيها التلاقي والحوار والمحبّة”. حِينَ نَسمعُ تِلكَ الدَّعوَة نَفهَم أن شيئًا ما في حَياتِنا وفي عالَمِنا، عَليه أَن يَتَغَيَّر، نَفهَم بأَنّنا مسؤولين عن عالَم الله في وسط عالَم البَشَر. إنَّ عالَم الله هو عالَمٌ يشعُرُ فيهِ كُلُّ واحِدٍ مِنّا بأّنَه مسؤولٌ عن الآخر، وعن خير الآخر”(عظة البابا فرنسيس من أجل السلام في سوريا، 7-9-2013)، ولا يُمكننا بالتالي أن لا نفعلَ شيئاً إن كُنّا نُريد لهذا العالَم أن يأخُذَ مكانَه في حياة البشريَة. فهذه الشرور التي تُحيطُ بِنا هي صنِيعَتُنا، شئنا أَم أبَينا، قَبِلْنا بِذَلِكَ أَم رَفضنا. كُلُّ واحِدٍ مِنّا وَضَعَ، بِطَريقَةٍ ما، أساساً للخطيئة، عَبر خَطيئَته الشَّخصيّة. إنَّ تراكم الخطايا الشخصيّة قاد إلى ما سَمَّاهُ االقديس البابا يوحنا بولس الثاني:”هيكليّة خطيئة“(تعليم الأربعاء 25 آب 1999)، دَعَّمَت ركائِزَ الشرِّ في العالَم، فتحوَّل هذا الأَخير إلى ساحةٍ فتَّاكَةٍ للإنسان، وذلِك على النَّحوِ الذي نشهده اليوم.
إن لَم نفعل شيئاً تجاه هذه الخطايا الإجتماعيّة التي تَعوَّدنا على العيش معها في ساحتنا البشريّة، تَقول السيدة الجميلة لدون بوسكو:”سيختفي جميع الأولاد من الساحة. وبدلاً منهم سنرى حيوانات كثيرة: ماعز وكلاب وقطط ودُببة وغيرها من الحيوانات المختلفة“. سيختفي الجمال وتبقى القباحة والشرّ والضلال. وبِمعنى آخر، ستتحوَّلُ السّاحةُ إلى مكان للظُلم والظُلمَة. وأوّل شيءٍ نفعلُه هو التوبَة التي تفترِضُ مَنَّا أن نَفُكَّ رِباط التحالُفَ مع الخطيئة التي تأقلَمنا معها، والنظر بروحٍ جديدة إلى الربّ الذي يُريدُ أن نَتبَعه، نابِذين الأساليب الخَفيَّةَ المُخجِلَة، تاركينَ طريق المَكرِ، سالكينَ في طريق الحقِّ والإستقامة، مُستنيرين بِنور إنجيل المسيح، الذي أنار قلب دون بوسكو ، فَكان، في السّاحة، نورُ المسيح الذي أشرَقَ في الظُلمة فأنارَ القلوب الخاطئة، لِمَعرفةِ مجدَ الله(2قور2-6).
صلاة
ايُّها القديس الأب والراعي والمُعلِّم يوحنا بوسكو، صلّي لأجلِنا، ولأجل هذا الشرّق المُعَذّب وبخاصّةٍ من لأجلِ سوريا والعراق، ساحة الحرب والإضطهاد، لكي تلين القلوب وتتلاقى حول طاولة الحوار والمحبَّة، فيَتحقّق السلام . آمين
أليتيا