تُركّز الذاكرة الجماعيّة المارونية على الأماكن التي تنسَّكَ فيها مار مارون، ومحطّات النضال في لبنان، فيذكرون دائماً وادي قنّوبين (وادي القدّيسين) وكفرحي المقرّ الأوّل للبطريركية السريانية المارونية التي أسَّسها البطريرك الأوّل للموارنة مار يوحنا مارون «أبّ القوميّة اللبنانية»، كذلك يذكرون بكركي التي وقفت في وجه السلطنة العثمانية وانتزعت «لبنان الكبير» وواجهت الاحتلال السوري، فيما ينسون دير مار مارون على نهر العاصي الذي تحوّل بفضل إهمال القيّمين عليه، إلى «زريبة للماعز والغنم»، بعدما كان ممرّاً لانتشار الموارنة في جبال لبنان، ولبنان بأكمله. تاريخ شعب في ظلّ الاضطهاد البيزنطي للمذهب السرياني في سوريا ولأتباع القدّيس مارون خصوصاً، لجأ عدد من أتباعه الى محيط نهر العاصي وبنوا ديراً على إسمه، وبعدما نشروا الدين في الهرمل ومحيطه، اختار الراهب السرياني العجوز من أتباع مارون، إبراهيم القورشي، ترك الدير والانتقال الى منطقة العاقورة، فأقنع الوثنيّين في العاقورة وجبال الشمال من إهدن الى بشرّي وتنّورين والمناطق الجبلية بالمذهب السرياني الجديد، ليَتبعه عدد من رهبان دير العاصي ويكملوا البشارة، فأصبح المذهب الماروني هو الغالب على المنطقة الجبلية بدءاً من عام 453 م، ما ينافي مقولة أنّ أصل موارنة لبنان من سوريا، مع العِلم أنّ مجموعات مارونية نزحت من سوريا بعد الاضطهاد، لكنّ الأغلبية المارونية في لبنان هي من أصل جبلي. واقع الدير «ما أبعد اليوم من الأمس»، فهذا الدير الذي نشر المذهب الماروني في لبنان، ومنه بنى الموارنة البلد النموذجي في الشرق، يقتله الإهمال، من دون معرفة المسؤول أو تحديد المسؤولية، في وقت تدفع الرهبانية المارونية والرابطة المارونية وبكركي الأموال الطائلة لاسترجاع أراضٍ باعها تجّار مسيحيّون طمعاً بالمال، أو لإقامة مشاريع عمرانية أو تحسين مؤسّسات تابعة لهم، فعلى الرغم من أهمّية هذه المشاريع، إلّا أنّ أصحابها يضربون عرض الحائط تاريخ الموارنة وأبرز تحفة حفرَها الرهبان في أحلك الظروف. واقع الدير مزرٍ، طريقه وعرة وصعبة، فالزفت لا يكاد يغطّي حجم سيارة صغيرة. لا يافطة أو لوحة تشير إلى موقعه، وكلّ من يريد الاستدلال إلى مدخله عليه اتّباع قساطل المياه على أوّل الطريق، ولحظة الوصول إليه يسيطر عليك العجب والذهول. العجب من مدى الاستخفاف بالتحف التاريخية الدينية، والذهول من طريقة عمل الرهبان، وكيف نحتوا الصخور وبنوا ديراً لا تستطيع الماكينات الحديثة بناءَه حاليّاً. وقد وُضعت صخرة لقطع الطريق على بعد نحو 30 متراً من الدير، لكي لا يصل أحد إليه، لأنّ القيِّمين عليه لا يريدون أن تزيد عمليات التخريب، وبالقرب من الصخرة لوحة كُتب عليها بالسريانية والعربية كلمات تعبّر عن أهمّية الموقع. التسلّق… للوصول تتسلّق الصخور التي ترتفع نحو 10 أمتار عن الأرض للوصول الى مدخله الخلفي، الذي هو عبارة عن حجارة كبيرة عُقِدت على بعضها، فتدخل وترى الغُرف التي حُفرت داخل الصخور، إذ يبلغ طول الغرفة الأولى نحو 7 أمتار وعرضها نحو 3 أمتار، وقد كتبت على جدرانها شعارات مسيئة وأسماء أشخاص، بينما طُليت جدرانها بالأسود بسبب دخان حطب التدفئة، أمّا أرضه فهي منحدرة. ومن الغرفة الأولى تدخل الى الغرفة الخلفية التي هي أصغر مساحةً، وكلّ ذلك في «العتمة»، لأنّ المكان يفتقد للإنارة. وبالقرب من الغرفتين، تلّة تراب في البهو المقابل، ووراءَهما حفرة مغطّاة هي «دهليز» حفرَه الرهبان للوصول إلى منبع العاصي لتأمين المياه في فترة الحصار. أمّا المدخل الأمامي فيرتفع عن الأرض نحو مترين، وشُيّد بصخور ضخمة، ويتميّز بغرفِه الصغيرة التي تعرّضت للأذى والتشويه. يستعمل رعاة الماعز والغنم هذا الموقع الأثري التاريخي المقدّس ليحتموا من المطر في أيام الشتاء، فيما تحتاج القطعان إلى مكان بارد نسبيّاً تستريح فيه هرَباً من الحرارة المرتفعة في فصل الصيف، وبالتالي وقع خيارهم على المغارة الباردة صيفاً لأنّها في قلب الصخر ولا تصلها الشمس، فبات أهمّ معلَم مارونيّ إستراحةً للقطعان، من دون أن تبادر أيٌّ من المؤسّسات المارونية لإنقاذه، على رغم الوعود القديمة التي أُغدِقت. المطرانية يخضع هذا الدير لسلطة مطرانية دير الأحمر وبعلبك للموارنة التي يرأسها حاليّاً المطران سمعان عطالله، ما يعني أنّه من مسؤولية بكركي. وعند سؤال المطران عن هذا الإهمال غير المبرّر، يَصفن قليلاً ثمّ يجيب: «مزبوط في إهمال»، ويقول لـ»الجمهوريّة»: «هناك قصص وتنازع على ملكيّة الدير، ولا شيء نهائيّاً. في البداية كان للرهبان، ثمّ انتقل لآل دندش وبعده لآل الأشقر، واستملكته الدولة التي طالبناها باسترجاعه، لكنّها أعطتنا حقّ استثمار واستملاك لسنة يجب تجديدها دائماً، ما يعني أنّنا لا نستطيع بناء مشروع كبير في غياب أيّ شيء ثابت. لكنّنا شهدنا حلحلة أخيراً وبدأنا الإعداد مع المهندسين لإعادة صيانة الدير وترميمه، إلّا أنّ المصاعب التي تواجهنا كثيرة، وتحاول بكركي مساعدتنا». ويلفت عطالله إلى أنّ «وضع المسيحيّين صعبٌ جدّاً في الهرمل وعددُهم إلى تناقص حادّ، بعدما كانت المنطقة مُنطلقاً للموارنة من العاصي، لكنّنا بنينا كنيسة في وادي الرطل في جرود الهرمل ونقيم قدّاساً فيها كلّ أسبوعين، حتى يتمسّك الأهالي بأرضهم، ولكي نساعدهم على الصمود». مسؤولية مشتركة لا يمكن تحميل المطران عطالله وحدَه مسؤولية حال الخراب التي وصل إليها دير العاصي، لأنّ النخر في بنيته بدأ منذ أعوام عدّة، فالكنيسة المارونية تتحمّل مجتمِعةً مسؤولية إهمال ذاكرة الموارنة وتشويه معالمها، إذ لا يكفي أن تبني كنائس تدفع عليها ملايين الدولارات في مناطق معيّنة، وفي المقابل لا تهتمّ بأديرةٍ تاريخية. فمن الناحية الاقتصادية ترتكز السياحة الدينية على الأديرة الأثرية لا على الكنائس الحديثة، ومهما صرفت الملايين على البناء الحديث، فلن يكون للموارنة تحفة بحجم دير مار مارون على العاصي. كذلك، فإنّ الأخطر هو ضرب الوجود المسيحي في الهرمل والبقاع، واقتناع الكنيسة المارونية بذلك، بحجّة أنّها منطقة بعيدة، فهذا المنطق ينهي التمدّد الماروني، في وقت عمل البطريرك مار يوحنا مارون على توسيع القومية المارونية، ومدَّ البطريرك الياس الحويك حدود لبنان الكبير إلى حيث يوجد موارنة، فضمّ قرى الشريط الحدودي وعكّار والبقاع. ما يحتاجه دير العاصي هو وضع خطّة إنقاذية سريعة، وبذلُ كلّ المستطاع لإعادة صورته الطبيعية، وهذه المهمّة أسهل بكثير من مهمّة مَن بناه بإيمان. فالأموال في البطريركية المارونية متوافرة بكثرة حاليّاً، لكنّها تحتاج إلى القرار والإيمان اللذين كانا موجودين لحظة بنائه… فالحفاظ على الإرث المارونيّ حفاظٌ على لبنان بكامله، والموارنة يرفضون المَسّ بأيّ معلَم دينيّ أثريّ لأيّ من الطوائف، فكيف هي الحال بالنسبة إلى معالمهم الخاصة، لا سيّما وأنّ الإهمال صادر عن القيّمين على هذه المعالم؟!
آلان سركيس في “الجمهورية”