عندما كان في السابعة عشرة من عمره، كتب الشاعر الفرنسي آرثر رامبو مقولته الشهيرة: «ينبغي أن نعثر على لغة شعرية جديدة، ينبغي أن نطالب الشعراء بأن يأتوا بشيء آخر جديد، شكلاً ومضموناً، ذلك أنّ اختراع المجاهيل يتطلّب منا استخدام أشكال لغوية جديدة، بمعنى آخر لا مضمون جديد من دون شكل جديد».هذه الكرونولوجيا المتعمقة والمتعلقة بسير الحدث وتجويفه برغم حداثة سنه، تأخذنا الى جوهر حقيقي لشاعرٍ كسر القواعد المتعارف عليها في الشعر، ليمخر عباب التصاعد المتوازي للأحداث، وليعبر إلى ضفة حافلة بالموج الثائر العابر إلى كنف الروح.
في ديوانه «إشراقات» قصائد نثرية وعمودية، تتراوح بين التجديد والتقليد، في غفوةٍ تركيبيّةٍ لترتيب السرد الموجز، وتنفيس الوجع الدامي والشهي في الوقت نفسه، في فلسفة غامضة وتعبيرٍ رمزي، يقود تلقائياً للهيام في شوارع الحرية ونواصي الثورة والتجديد.
القارب السكران
وفي قصيدة القارب السكران، التي تعدُّ علامة فارقة في ملكوت الشعر، يقول: «بما أنني أنحدر من الأنهار اللامبالية / لم أعد أحسّني منقاداً من طرف ساحبي المراكب/ هنود حمر صياحون اتخذوهم هدفا/ بعد أن سمّروهم (ثبّتوهم) عراة على أعمدة من ألوان/ كنت غير مكترث بكل طواقم السفن/ حمّالاً للقمح الفلامندي أو للقطن الإنكليزي: عندما مع ساحبي تنتهي تلك الجلبة/ تتركني الأنهار أنزل حيث أبتغي».
بعد هذه القصيدة، يحدث أن يلتقي رامبو بالشاعر «بول فرلين»، فيتوجهان معاً إلى انكلترا، بعد أن يترك الأخير عروسه وأهله مُصاباً بلوثة الشعر وجنونه، ويسيران في عبثية مطلقة، ينظمان الشعر، ثم يتشاجران بعدها بوحشية الصراع الإثباتي للذات، ويطلق فرلين من مسدسه رصاصة ليقتله، ويصيب يد رامبو بجرحٍ غائر، فيُقاد الى السجن ويُجازى بالحبس لمدة عامين.
ويعود رامبو إلى بلده، ولا يلبث أن تقوده الحماسة لباريس، ويوالي حكومة الكومون وينظم الشعر الثوري بحماس ناقداً الوضع السياسي، حَاثّاً على الثورة، ويتلقفه بعد هذا عالم الثمالة والحانات، فيهجر الشعر، ويسافر الى ألمانيا فيعمل في التجارة، ثم عمل بحاراً في سفينة شراعية في باتافيا، ثم عاد إلى فرنسا، بالاضافة الىى سفره الى الاسكندرية والأقصر وهولندا والنمسا والسويد وسويسرا.
هذا التنوع الحضاري في ترحاله، أسبغَ على شعره صبغة ارجوانية، وطريقة لا يمكن أن تكون أكثر حداثة، مع تصميمه على التنوير الحداثي.
فجر
في قصيدة «فجر» يقول رامبو: «قبَّلتُ فجر الصيف لم يكن شيء يتحرك بعد في واجهة القصور/ الماء كان ميتاً/ ومعسكرات الظلال لم تكن تترك طريق الغابة/ مشيت، موقظاً الأنفاس الحية والفاترة، والجواهر نظرت، والأجنحة انطلقت بدون ضجيج/ أول مبادرة، في الدرب الضيق المليء بالاضاءات الطرية والشاحبة، جاءت من زهرة قالت لي اسمها/ ضحكت لمنظر الشلال الاشقر: الذي راح يتفرع كجدائل الشعر/ عبر أشجار الصنوبر: في القمة/ الفضية عرفت الآلهة».
شاعر رنّان
رامبو شاعر رنّان في قصائده، يُعدّ من أوائل المؤسسين للمدرسة الشعرية الرمزية، يرسمُ بحبره معاناة الكون، ويجلو حقائق مصيرية ثابتة، قد يغفل عنها الكثير من المواطنين والحكام على حدّ سواء، وأشعاره تفقد الكثير من سحرها عند ترجمتها رغم جودة الترجمة، لأنها تتدفق على سجّيتها في لغتها الأم، وتعلن عن تمرّد شاعرٍ كتب ديواناً يتيماً طيلة حياته، ثم هجر الشعر مخيّراً، عازفاً عنه لعالمٍ بَدا له أكثر بشاشة من الهيام في عوالم محبكة الفلسفة، يستقي منها جنوناً موروثاً في عالم المبدعين، وقد يكون في هجرانه الكتابة عبرة لا يدركها الكثيرون، وهي أنّ الفراغ الذي يولّده من كتب كلّ عواطفه في ديوان وأفرغها، لا يمكن أن يورث بعد هذا إلّا الصدى الأجوف، فالخير له أن يعيش على ذكرى ما نسجه وغزله من سكينة مطبقة وثورة هائجة وعواصف لا تُنذر إلّا بولادة شاعرٍ تنويري بخطورة وابداع رامبو.
نسرين بلوط
الجمهورية