ما زالت أثار الحرب الأخيرة على غزّة راسخة في أذهان الصحافيين الذين عملوا وسط النيران. مرّ هؤلاء بتجارب قاسية، دفعتهم نحو تعرية الصهاينة أمام الرأي العام العالمي. تنقّلوا بين حقول الألغام وتحت سماءٍ تمطر قذائف وصواريخ. هكذا، تحوّل بعض ناقلي الخبر إلى الخبر، إذ حصدت الحرب أرواح 17 صحافياً وأوقعت 28 إصابةً في صفوفهم.
رغم واقع الصحافيين الفلسطينيين المرير، تطرح معركة غزّة الأخيرة أسئلة محوريّة وملّحة حول موقف منظمات حماية الصحافيين الدولية من جملة الانتهاكات التي تعرّض لها الجسم الإعلامي خلال الحرب، ومن محاسبة العدو. في هذا السياق، من المفترض أن تلتئم قريباً لجنة تحقيق عربيّة بإيعاز من «الاتحاد العام للصحافيين العرب»، تضمّ قانونيين ينجزون ملفات متكاملة توثّق كل ما حصل، لرفعها للجهات المعنية بدراسة الانتهاكات، وتعزيز الردع، والعقوبات على إسرائيل، خصوصاً أنّ وفداً من «نقابة الصحافيين» في رام الله و«اتحاد الصحافيين العرب» زار القطاع المحاصر في الأيام القليلة الماضية للاطلاع عن كثب على حال الصحافيين فيه.
وسط هذه الخطوات المبدئيّة التي من المبكّر التصفيق لها، ترتفع أسهم صحافيي غزّة الذين لم يكن للاحتلال الإسرائيلي أن ينتفخ غيظاً منهم ويوغل في قتلهم لولا تفوّقهم على نظرائهم الإسرائيليين وصدقيّتهم في تصويب العين على معاناة الغزّيين.
على الضفة المقابلة، يبقى التحدي الأكبر أمام «نقابة الصحافيين الفلسطينيين» وزارة الإعلام الفلسطينية في تدويل قضية أهل الإعلام وانتزاع حقوقهم من أنياب العدو. هكذا، أنتجت الوزارة أخيراً فيلماً وثائقياً قصيراً (5:23 د) أشبه بومضات سريعة تختزل واقع الصحافيين خلال الحرب الإسرائيلية. صحيح أنّ الشريط يُطلع المشاهد على حال الصحافيين المراوحة بين الحياة والموت، غير أنّه يستهدف جمهوراً ضيّقاً بفعل حالة التململ التي تعيشها الوزارة وعدم ديناميتها في استثمار كل تجاوزات الاحتلال بحق صحافييها. الفيلم يحمل عنوان «صحافيون تحت خط النار» (إعداد الصحافيتان نداء يونس وآلاء ياغي)، ويعتبر مشحوناً بالعواطف ومتخماً بقرائن وأدلة حقيقية عن التجاوزات الصهيونية. تجاوزات موثّقة بالصوت والصور الثابتة والمتحركة، لكنه يبقى متواضعاً إذا قورن بحجم الانتهاكات ونوعيّتها. كما أن اللفتة الجميلة في «صحافيون تحت خط النار» هي عدم تغييب الصحافيين العرب والأجانب الذين غطّوا الحرب على القطاع، وتحديداً الصحافي الإيطالي كاميلي سيمون الذي فارق الحياة الشهر الماضي أثناء تغطيته محاولة تفكيك أحد الصواريخ غير المنفجرة شمال غزّة.
ونقل العمل ذو الخلفية الموسيقيّة المؤثرة شهادة صوتيّة لأحد الصحافيين الألمان الذي قال: «أُصبت بالذعر. كنت خائفاً من ألا أتمكّن من البقاء على قيد الحياة حتى نهاية هذا اليوم أو غداً»، كما عرض ورقة باللغة الإنكليزية تبيّن غسل العدو يديه من انتهاكاته عبر الضغط على الصحافيين الأجانب وإجبارهم على التوقيع على الورقة لدى وصولهم إلى غزّة عن طريق حاجز «إيريز» (الفاصل بين القطاع والضفة الغربية). تنص الورقة على أنّ «جيش الدفاع الإسرائيلي يُلزم الصحافيين بتوقيع إخلاء طرف لمسؤولية إسرائيل عن أي ضرر يلحق بهم أثناء تغطيتهم للحرب على قطاع غزّة». هذه الخطوات الإسرائيلية التي تحاصر الصحافيين الأجانب تُرجمت واقعاً، بعدما مال جزءٌ من المنظومة الإعلامية الغربية إلى جانب الفلسطينيين خلال الحرب الأخيرة، خصوصاً بعد «جريمة الشاطئ» (الأخبار 18/7/2014).
على خطٍ موازٍ، أبرز الفيلم القصير مشاهد لصحافيين يتسابقون مع الموت أثناء إلقاء العدو صواريخه الإرشادية على مقارهم الإعلاميّة، كما حدث مع وكالة «الوطنية» في «برج الجوهرة»، وبرجي «باشا» و«داود» اللذين يضمان عدداً من المكاتب الصحافية. كذلك، أظهر «صحافيون تحت خط النار» مساعدة بعض الإعلاميين لطواقم الإسعاف على انتشال المصابين، رغم أن الدروع ومعدات السلامة فشلت في حمايتهم. وعرضت الدقائق الخمس جميع صور الشهداء حاملي شعلة الحقيقة مع نبذة موجزة عن تواريخ استشهادهم وأماكن عملهم، مع مشاهد قليلة من أرض الحدث تبيّن وجوه الصحافيين وأجسادهم مغطاة بالدماء. ويسدل الفيلم الستار على مشاهده بمشهد موجع لطفلين يتقمّصان دور المذيع والمراسل، قبل أن يصبح أحدهما في عداد الشهداء بعد أيام قليلة. لكن يبقى الشريط فاقداً لروحه إذا لم تلحقه خطوات جادّة في محاسبة العدو قانونياً. فهل ستجتاز وزارة الإعلام هذا الاختبار بنجاح، أم سننتظر مزيداً من أكفان الشهداء الصحافيين؟
الانتهاكات بالأرقام
أسفرت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزّة عن نزوح 140 أسرة صحافي من منزلها، وتدمير 42 منزلاً بشكل كلّي، و61 منزلاً آخر بشكل جزئي. كما خلّفت دماراً هائلاً في مقار 19 مؤسسة إعلاميّة، وأوقفت بثّ أكثر من 15 محطة إذاعية وتلفزيونية، فيما استهدفت 6 سيارات تحمل إشارات الصحافة بشكل مباشر. ودفع 17 صحافياً شهيداً ثمن نقلهم للحقيقة، علماً بأنّ معظمهم يعمل لصالح فضائيات «الأقصى» و«الكتاب» و«فلسطين»، فضلاً عن صحيفة «الرسالة» و«الشبكة الفلسطينية للإعلام». ورصد «المركز الفلسطيني للتنمية وحريات الصحافيين» (مدى) ازدياداً مضطرداً في حجم الانتهاكات بحق الصحافيين، إذ ازدادت نسبتها هذا العام بمعدل 64 في المئة مقارنةً بالعام الفائت.
عروبة عثمان / الأخبار