أغمضت عينيها على طهرها ومضت… أتراه يسعد «فيليب» بعودة اللقيا؟ لم تتعب املي أبي راشد نصرالله (1931 ـــ 2018) من نضالها في الكتابة والدفاع عن حقوق المرأة، الطفل واللغة، وعن لهفتنا وأشواقنا إلى أبنائنا الذين تآكلتهم الغربة، مثلما أكلت حنيننا إليهم… لكن بعد سنتين من مقاومة السرطان، قررت أيقونة الكلمة والأدب واللطف أن ترتاح وترحل، حتى قبل عودة «طيور أيلول».
هذه «الفلاحة الجنوبية» لم تبهرها بهارج المدينة وأضواؤها، بعدما سلخت نفسها عن بيئة «منغلقة» على حرّية المرأة وحقّها في التعلّم. لذلك حافظت على القيم الإنسانية والاجتماعية التي بقيت راسخة في ذاتها، بل استثمرتها في لغة أدبية حوارية دافعت عن كثير من المبادئ الوطنية والاجتماعية، وأغنت مكتبتنا بعشرات القصص والروايات التي ترجمت إلى لغات عالمية متعددة.
ولدت صاحبة «طيور أيلول» في 10 تموز (يوليو) 1931 في بلدة كوكبا في قضاء حاصبيا (جنوب لبنان). هي الابنة البكر لعائلة مؤلفة من ستة أولاد. والدها داوود أبي راشد من كوكبا، ووالدتها لطفى أبو نصر من الكفير، حيث استقرت العائلة بعد ولادة املي بقليل. عاشت طفولتها كغيرها من أطفال القرى. عملت في الحقول، وشاركت في جني المواسم، من قطاف الزيتون الى حصاد القمح، فأغنت هذه الحياة ذاكرتها. مع الحرف الأول الذي تلقنته ابنة الست سنوات، بدأت رحلة الغرام بالكتاب، لكن شوقها للمعرفة كان سابقاً لدخولها المدرسة. وهي تصف تلك المرحلة: «كان منزلنا مجاوراً لمدرسة القرية التي تستقبل تلامذة الست سنوات فقط. كنت أهرب من المنزل وأنا في عمر الأربع سنوات، وأسترق السمع من نافذة الصف وأحفظ الشعر والقصص. فكم حفظت من الأشعار وأسمعتها لوالدي وهو يجلس على المصطبة يشرب القهوة مع أصدقائه».
لولعها بالمعرفة؛ وتوقها إلى الهرب من محيطها الضيّق، «وقد كبّلني، روحاً وجسداً؛ وحسبت أن الكلمة طائر مجنح أتعلق به وأرحل»، ظلت تحلم بأنه، ربما، خلف الأفق، فسحة حرية لا تتوافر لها في المكان الأول. تتأمل وهي تراقب مرور المواسم وعبور الطيور المهاجرة، عاماً بعد عام. أخيراً، انتشلها مما هي فيه من ارتباك، واحد من تلك الطيور التي هاجرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى… إنّه خالها أيوب أبو نصر الكاتب (باللغة الإنكليزية) والعضو في «الرابطة القلمية»، العائد من نيويورك ليسكن الدار ويقصّ على مسامعها قصص الفتيات في أميركا. كذلك، أنقذها خالها توفيق حين كتبت تطلب مساعدته المالية كي تعبر الجسر، إلى ما هو أبعد من مدرستها الابتدائية، والصف الثالث فيها الذي أعادته مرة ثانية لأن لا صف بعده! كانت تلك قفزتها والمحطة الأولى، «فأنا أعيش في مجتمع محافظ جداً، كان والدي يريد أن يحجبني مثلاً، والمسموح للذكر غير مباح للأنثى، ما جعلني أثور على ما أنا فيه».
إلى بيروت تصل سنة 1953، تحمل فوق منكبيها كل «الوصايا المستحيلة»؛ فكانت تسير في الشوارع كأنها مراقبة من عيون أولئك الناس الذي أحبتهم «حتى آخر حرف».
في بيروت، سكنت في معهد داخلي وعلّمت فيه لقاء إقامتها المجانية. انطلاقتها الصحافية في «صوت المرأة» أهلتها للوصول إلى «دار الصياد» عام 1955. من هناك، تدخل في عالم الصحافة من بابها الواسع، ومن دورها الأشهر آنذاك ومن خلال صاحبها ذي الانتشار العربي الواسع، سعيد فريحة. ولكي تبقى حرة وعلى الحياد، تجنبت السياسة وكتبت في زاوية «الدور والقصور» التي رشحتها للدخول إلى تلك القصور المخملية في بيروت والتعرف إلى رباتها، وقد استلهمت تجاربهن الحياتية في بعض عناوين القصص ومدلولاتها. كذلك، مهدت لها الصحافة من أبوابها المختلفة، التعرف إلى الرؤساء ونسائهم والعديد من سيدات المجتمع. في 1958، تخرّجت من الجامعة الأميركية بشهادة بكالوريوس، وبعدها بأربع سنوات (1962) صدرت روايتها الأولى «طيور أيلول». فور صدورها، نالت ثلاث جوائز أدبية، وتجاوزت في طبعتها حتى اليوم الثامنة عشرة، تلتها سبع روايات وتسع مجموعات قصصية.
في 1957، تزوجت من الكيميائي فيليب نصراللّه، من زحلة ورزقت منه بأربعة أبناء هم: رمزي، مها، خليل ومنى. في 1982، احترق منزلها العائلي، مع مجموعة مخطوطات إبّان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. ومع ترجمة روايتها «الإقلاع عكس الزمن» إلى الإنكليزية عام 1987، فُتح الباب أمام ترجمة العديد من أعمالها إلى الإنكليزية، الألمانية، الهولندية والألمانية والتايلاندية…
كُرّمت في آب (أغسطس) 2017 في ألمانيا التي منحتها وسام «غوته» الفخري. كذلك، كرّمها «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» وجمعية «بيت المصوّر» و«مؤسسة نجوى القلعاني» و«المنبر الثقافي» (التابع لجمعية التَّخَصُّص والتوجيه العلمي) و«جمعية تقدّم المرأة» في النبطية و«معرض خليل برجاوي لطوابع البريد»، ضمن احتفال حاشد أقيم في 2017 في مركز جمعية «التخصّص العلمي» في بيروت وتخلله توزيع بطاقات بريدية عليها نبذة عنها باللغتين العربية والإنكليزية، وحملت إحداها صورة روايتها الأولى «طيور أيلول»، والثانية صورة لها بالأسود والأبيض. أما الثالثة فكانت لوحة رسمتها الفنانة خولة الطفيلي وأهدتها إياها خلال التكريم.
في 6 شباط (فبراير) الماضي، كان مقرراً أن يقلدها رئيس الجمهورية ميشال عون وساماً جمهورياً من رتبة «كومندور» في القصر الجمهوري، تقديراً «لعطائها وإبداعها الإنسانيَيْن…» بيد أن وضعها الصحي حال دون وصولها إلى القصر، فأوفد إليها وزير العدل سليم جريصاتي لتقليدها الوسام، وتحدث إليها عون عبر الهاتف مباركاً لها هذا الوسام. وقد علّقت على الجائزة بقولها: «ماذا فعلت لاستحق التكريم، أنا فلاحة ابنة فلاحين، وما كتبته كان ينبع من احساسي مرة في معاندة الهجرة التي سلبت مني اخوتي وأعز شباب القرية ومرات للاطفال لأبعدهم عن أجواء الحرب بالكلمة العذبة والمواقف الشجاعة».
ويوم كرمها «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» بحضور أمينه العام حبيب صادق، قالت: «بعد هذا المشوار الطويل، ما زلت أعتبر نفسي تلك الفلاحة الريفية، التي أحبّت حقول قريتها، ومارست العمل فيها. وعندما أرخت من يدها «المحراث»، أمسكت بالقلم لتتابع الحراثة والغرس، على رجاء أن تنقل كلماتها ما يختزن صدرها، من محبة، ودعوة لأجل السلام والحرية. على أمل أن تبقى أرضنا وفية لأصولها والجذور، فتقرأ باللسان العربي، أي باللغة الأم، أدباً حيّاً من أرضنا، وضارباً جذوره في أعماقها، مثل القمح والكرمة والزيتون».
* تقام مراسم الجنازة اليوم (س:15:00) في «مطرانية مار نقولا للروم الأرثوكس» في حي الميدان (زحلة) ـــ تقبل التعازي في صالون الكنيسة قبل الدفن وبعده. كما تقبل في صالون «كنيسة سيدة النياح للروم الأرثوذكس» في شارع المكحول في رأس بيروت يومي الجمعة والسبت (من العاشرة صباحاً حتى السادسة مساء)، والأحد 18 آذار (من الثانية بعد الظهر لغاية السادسة مساء).
الكتاب الأخير
قبل رحيلها بأيام، أصدرت دار «هاشيت أنطوان/ نوفل» كتاب «الزمن الجميل» الذي يعد بمثابة تحية لإملي نصر الله ولسنواتها الذهبية في عالم الصحافة. هنا، تأخذنا الراحلة إلى لبنان الخمسينيات والستينيات، وتذكّرنا بأسماء نسيناها وتقدم لنا أخرى لا نعرفها، من خلال وجوه قابلتها وحاورتها. هنّ نساء في الأغلب. مناضلات، كلٌّ على طريقتها، في المجال العام أو الخاص.