غيب الموت قبيل أيام الأديب والأكاديمي البيروتي أحمد سهيل علبي (مواليد 1936). غادر، هذا الذي طمح دوماً أن يكون مفكراً وجهد في سبيل ذلك بجدارة وشطارة الحياة التي عشق، وترك العاصمة التي احب وتغنى بها وبإنسانها وتراثها وهو ما زال بعد في ذروة عطائه وبعد أن اعطى فأثرى وأبدع .
هو من جيل الادباء الشطار الذين تعاطوا بجدية وقدسية مع الكلمة وتعبوا حتى حصلوا رصيداً ثقافياً عالياً وشاملاً وواسعاً الى اقصى الحدود، يحدوهم في سبيل ذلك التزام بقضية الانسان المعذب المهمش المسلوب الحرية والارادة الباحث عن كرامة ولقمة عيش وفرصة علم وحرية. لذا اعلن باكراً انحيازه التام الى الايديولوجية الثورية منهج حياة وبحث علمي ورؤية واقعية، وأقبل في الوقت عينه الى مخزون التراث العربي والإسلامي العريض منقّباً في ثناياه ومناحيه العميقة عن أبعاد ثورات وانتفاضات المعذبين في فجاج الارض وفي كل زمن ومكان، وعن نمط حياة المقصيين المحرومين من حقهم في الإنسانية فكان له قصب الريادة في الكتابة عن ثورة الزنج وقائدها المظلوم محمد بن علي وهي أحد ثورات الانسان العربي المقموع إبان احد حقب الخلافة العباسية. وقد كتب مؤلفه عنها عام 1961 ثم اعاد طبعه ثانية في عام 1991 وثالثة في عام 2007 واستتبعه لاحقاً في السياق عينه بمؤلف آخر عن “ثورة العبيد في الاسلام” فبدا صاحب رؤية قكرية تبغي ازالة هالة من التمجيد على حقبة بالغة السلبية في تاريخنا من عناوينه العريضة “انتاج السلطة والمال ولو على حساب جوهر العقيدة وانسانية الانسان”.
ثم آثر لاحقا الانتقال الى فضاء العلمانية والتحديث في عالمنا العربي فكان مؤلفاه الجامعان المانعان عن شخصية عميد الادب العربي شاغل الدنيا طه حسين ومشروعه التنويري وهما: “طه حسين رجل وفكر وعصر” و “طه حسين سيرة مكافح عنيد”. ورغم سعة المكتوب عن هذا العملاق الا ان الدكتور احمد قدم لنا اضافات قيمة عن هذا الاديب العميق الذي تحدى حجب العتمة بكل صنوفها والوانها لينفذ الى فضاء النور وتنوير الاذهان والوجدان مركزاً على القيم التنويرية الانسانية في نتاج هذا الذي ما زال حاضراً بعناد في حاضرتها رغم مرور اكثر من قرن على ولادته واكثر من 40 عاماً على رحيله.
وفي ما يشبه عملية نكوص الى العمق اللبناني اشتغل علبي في سنيه الاخيرة على اعادة الاعتبار لادب الاديب اللبناني المعروف رئيف كرم صنوه في الانتماء الفكري وفي الانحياز الى قيم الانسانية فأضاء على رحلة نضاله الادبي والسياسي والتربوي وهو (خوري) الذي قال عنه مجايلوه انه امضى حياته بين اثنين لا ثالث لهما إما واقفاً ليربي ويدرس واما جالساً ليكتب ويضيف ويغني الفكر .
ورغم انه يصعب الاحاطة بعطاءات هذا الاديب العنيد الراحل لتوه، ثمة مزية اخرى تحسب له وهي انه من المشتغلين بما يعرف بـ “ادب الرحلة” وما تتخلله من تفاصيل يومية عن البشر والحجر وفي تالفهما معاً ليشكلا ملحمة الحياة، وهو اللون من الادب الضارب عميقاً في تراثنا الادبي ولكنه الوشك على الغياب عن عيوننا وعن صفحات ادبنا فكانت له (للدكتور) أحمد صولات وجولات في هذا الميدان بعدما اختار ان يمضي الشطر الاخير من حياته جائلاً على المعالم الجمالية والعمرانية في هذا البلد الذي تنطبق عليه مقولة “عبقرية المكان والزمن”. وكان اخر نتاجات في هذا الحقل المعرفي “بالاحضان يا بلدنا” وقبله مؤلف “في حنايا الوطن الملهم، نزهات وحكايات” ومؤلف “تحت وسادتي” الذي جمع بين السيرة الذاتية والمشاوير في احضان “الجبل الملهم” وفق تسمية احد الادباء اللبنانيين لبلدهم. ولم يفته ان يضرب في حقول ادبية اخرى، فكان كتابه الطريف سيرة “مجنون ليلى” قيس بن الملوح الذي اثرى عقول العاشقين وملأ وجدانهم وخيالهم وحضهم على ممارسة فعل الحب وتحدي العقبات في سبيل الوصال مع المحبوب.
وبرع الدكتور علبي ايضاً فيا دب المقالة على الوانها، فغذى على مدى نصف قرن الصحف والدوريات اللبنانية والعربية بآلاف المقالات ومنها صحيفة “النهار” التي خص صفحاتها الثقافية وعلى مدى 13 عاماً ( 1984-1996) بزاوية جذابة فعلت فعلها وحملت عنوان: “حبر”.
ومن مفاخر الاديب الراحل انه عاصر جيل العمالقة من الادباء العرب وتواصل معهم بل وشارك بعضهم مشاريع فكرية وثقافية، ومنهم الى طه حسين عباس محمود العقاد وابرهيم عبد القادر المازني عشرات غيرهم في مصر الى حسين مروة ومحمد عيتاني ومحمد دكروب وعشرات غيرهم في لبنان.
خلّف علبي برحيله فجوة وثلمة في أدبنا العربي يصعب ان نعثر يوماً على من يتطوع ليسدها، اذ يبدو ان جيل الادباء الموسوعيين الملتزمين حتى النخاع بقضية الانسان والتنوير ومنازلة التحجر والجمود الزاحفين على عقولنا في هذه الايام بكل صفاقة وجلافة.
النهار