عُقد مؤتمر صحفي في دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي لتقديم الرسالة الرسوليّة للبابا فرنسيس بمناسبة اختتام اليوبيل الاستثنائي للرحمة والتي تحمل عنوان “رحمة وبؤس”. ننشر فيما يلي نصّ الرسالة:
رحمة وبؤس هما الكلمتان التي يستعملهما القديس أغوسطينوس ليخبر اللقاء بين يسوع والزانية (راجع يوحنا 8، 1- 11). لم يكن بإمكانه أن يجد عبارة أكثر جمالاً وصدقًا منها ليجعلنا نفهم سرّ محبّة الله عندما يأتي للقاء الخاطئ: “بقيا وحدهما فقط: البؤس والرحمة”. كم من الشفقة والعدالة الإلهيّة نجد في هذه الرواية! ويأتي تعليمه لينير اختتام اليوبيل الاستثنائي للرحمة فيما يشير إلى المسيرة التي دعينا لسيرها في المستقبل.
١. يمكن لهذه الصفحة من الإنجيل أن تُعتبر أيقونة لما احتفلنا به خلال السنة المقدّسة، زمن غني بالرحمة، التي لا تزال تطلُب أن يُحتفل بها وتُعاش في جماعاتنا. في الواقع، لا يمكن للرحمة أن تكون وقفة في حياة الكنيسة ولكنها تكوّن حياتها التي تجعل حقيقة الإنجيل العميقة ظاهرة وملموسة. كلُّ شيء يظهر في الرحمة؛ وكل شيء يجد حلاً في محبة الآب الرحيمة. امرأة ويسوع التقيا، هي زانية وبحسب الشريعة، حُكم عليها بالرجم؛ وهو، الذي من خلال بشارته وبذل ذاته بالكامل الذي سيحمله على الصليب، قد أعاد شريعة موسى إلى هدفها الأول والأصيل. في المحور لا توجد الشريعة والعدالة القانونيّة وإنما محبّة الله الذي يعرف أن يقرأ في قلب كل شخص ليفهم رغبته الخفيّة، والذي ينبغي أن يكون في المرتبة الأولى. مع ذلك لا تلتقي، في هذه الرواية الإنجيليّة، الخطيئة بالحكم المجرّد وإنما تلتقي خاطئة بالمخلِّص. لقد نظر يسوع في عيني تلك المرأة وقرأ في قلبها: فوجد الرغبة في أن يتمّ فهمها ومسامحتها وتحريرها. لقد أُلبس بؤس الخطيئة برحمة المحبّة. ما من حكم من قِبَل يسوع لم تطبعه الشفقة والرأفة لحالة الخاطئة. ولمن أرادوا أن يدينوها ويحكموا عليها بالموت، أجاب يسوع بصمت طويل يريد أن يُظهر صوت الله في الضمائر، إن كان في ضمير المرأة وإما في ضمائر مُتَّهميها، الذين تركوا الحجارة من أيديهم وانصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد (راجع يوحنا 8، 9). وبعد ذلك الصمت قال يسوع: “أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟… وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة” (الآيات 10- 11). بهذا الشكل ساعدها كي تنظر إلى المستقبل برجاء وتكون مستعدّة للإنطلاق مجدّدًا في حياتها؛ فمن الآن فصاعدًا، إذا أرادت، يمكنها أن “تسير في المحبّة” (راجع أفسس 5، 2). فبعد أن نلبس الرحمة، حتى وإن بقيَت حالة الضعف بسبب الخطيئة، تبقى المحبّة هي المُسيطرة وتسمح لنا بأن ننظر أبعد ونعيش بشكل مختلف.
۲. إن يسوع من جهته قد علّم هذا الأمر بوضوح عندما دعاه فرّيسيّ على الغداء واقتربت منه امرأة كان الجميع يعرف أنها خاطئة (راجع لوقا 7، 36- 50). كانت قد دهنت رجلي يسوع بالطيب وغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعرها (راجع الآيات 37- 38). وأمام ردّة فعل الفرّيسيّ المُستهجنة، أجاب يسوع: “إِنَّ خَطاياها الكَثيرَةَ غُفِرَت لَها، فلأَنَّها أَظهَرَت حُبّاً كثيراً. وأَمَّا الَّذي يُغفَرُ له القَليل، فإِنَّه يُظهِرُ حُبّاً قَليلاً” (الآية 47). المغفرة هي العلامة المرئيّة لمحبّة الآب التي أراد يسوع أن يظهرها في حياته كلِّها. ما من صفحة في الإنجيل يمكنها أن تتملَّص من وصيّة المحبّة التي تصل إلى المغفرة. حتى في اللحظة الأخيرة لحياته الأرضيّة وفيما كان مُسمَّرًا على الصليب لفظ يسوع كلمات مغفرة: “يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لأنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون” (لوقا 23، 34). لا شيء مما يضعه خاطئ تائب أمام رحمة الله يبقى بدون عناق مغفرته. لهذا السبب لا يمكن لأحد منا أن يضع شروطًا للرحمة؛ فهي تبقى دائمًا فعل مجانيّة للآب السماوي، محبّة غير مشروطة وغير مستَحَقَّة. وبالتالي لا يمكننا أن نخاطر بمعارضة ملء حريّة المحبّة التي من خلالها يدخل الله في حياة كل شخص. إن الرحمة هي العمل الملموس للرحمة التي وإذ تغفر تحوِّل الحياة وتغيّرها. هكذا يظهر سرّها الإلهي. الله رحوم (راجع خروج 34، 6)، ورحمته تدوم إلى الأبد (راجع مز 136)، من جيل إلى جيل يعانق كل شخص يثق به ويحوِّله ويعطيه حياته عينها.
۳. ما أكبر الفرح الذي ولد في قلب هاتين المرأتين الزانية والخاطئة! لقد جعلتهما المغفرة تشعران بأنهما حُرّتان وسعيدتان أكثر من أي وقت مضى. لقد تحوّلت دموع الخجل والألم إلى ابتسامة من تعرف بأنها محبوبة. إنَّ الرحمة تولِّد الفرح لأن القلب ينفتح على رجاء حياة جديدة. لا يمكننا أن نصف فرح المغفرة ولكنَّه يظهر فينا في كلِّ مرّة نختبرها. في أساسها نجد المحبّة التي من خلالها يأتي الرب للقائنا ويكسر حلقة الأنانيّة التي تحيط بنا ليجعلنا بدورنا أدوات رحمة. كم هي مهّمة أيضًا بالنسبة لنا الكلمات القديمة التي كانت تقود المسيحيين الأوائل: “مُتَّشحين بالفرح الذي يقبله الله على الدوام ويرضيه. فبه يُسرّ. كلُّ إنسان فرِح يعمل جيِّدًا ويفكّر جيدًا ويزدري الحزن… يحيون بالله الذين يُبعدون الحزن ويتَّشحون بالفرح” (راعي هرمس، الفصل 42، 1- 4). إن خبرة الرحمة تعطي الفرح. لا نسمح بأن تنتزعه منا المصائب والاضطرابات المتعددة. ليبقى متجذّرًا في قلوبنا وليجعلنا ننظر على الدوام بطمأنينة إلى الحياة اليوميّة. في ثقافة غالبًا ما تسيطر عليها التكنولوجيا، يبدو أن الأشكال العديدة للحزن والوحدة التي يقع فيها الأشخاص وخاصة الشباب تتكاثر. والمستقبل في الواقع يبدو رهينة للشك الذي لا يسمح بالثبات. وهكذا تولد غالبًا مشاعر الكآبة والحزن والضجر التي يمكنها أن تحمل ببطء إلى اليأس. نحن بحاجة لشهود رجاء وفرح حقيقي لنطرد الأوهام التي تعِدُ بسعادة سهلة وفردوسًا اصطناعيًّا. إن الفراغ العميق لدى الكثيرين يمكن ملؤه بالرجاء الذي نحمله في قلوبنا ومن الفرح الناتج عنه. نحن بحاجة لأن نعترف بالفرح الذي يظهر في القلب الذي لمسته الرحمة. لنغتنِ إذًا بكلمات الرسول: “إِفرَحوا في الرَّبِّ دائِمًا” (فيليبي 4، 4؛ راجع 1 تسالونيقي 5، 16).
٤. لقد احتفلنا بسَنَة مُفعمة بالزخم، أُعطيت لنا خلالها بوفرة نعمة الرحمة، وكريح قويّة وفعّالة أُفيض صلاح الرب ورحمته على العالم أجمع. وأمام هذه النظرة المحبّة لله الذي وبشكل مستمرّ توجّه إلى كل واحد منا، لا يمكننا أن نقف غير مبالين لأن هذا الأمر يغيّر الحياة. نشعر بالحاجة أولاً لأن نشكر الرب ونقول له: “رَضيتَ يا ربُّ عن أرضِكَ… رَفَعْتَ عَنْ شعبِكَ آثامَهُم” (مزمور 85، 2- 3). وهكذا يَستُرُ لنا الله ذُنوبَنا، وفي أعماقِ البحرِ يَطرحُ جميعَ خطايانا (راجع ميخا 7، 19)؛ فهو لا يذكرها وقد طرحها وراء ظهره (راجع أشعيا 38، 17)؛ وكبُعدِ المشرِقِ مِنَ المغربِ يُبعِدُ عنَّا معاصيَنا (راجع مزمور 103، 12). خلال هذه السنة المقدّسة عرفت الكنيسة كيف تُصغي واختبرت بقوّة كبيرة حضور وقرب الآب الذي وبعمل الروح القدس جعل أكثر وضوحًا عطيّة يسوع المسيح ووصيّته فيما يتعلّق بالمغفرة. لقد افتقدَنا الرب مرّة أخرى حقيقةً، لقد شعرنا بنَفَسِه الحيِّ يفيض على الكنيسة ومرّة أُخرى تدلُّنا كلماته على الرسالة: “خُذوا الرُّوحَ القُدُس. مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم” (يوحنا 20، 22- 23).
٥. والآن وإذ اختُتمَ هذا اليوبيل حان الوقت لننظر إلى الأمام ونفهم كيف نتابع بأمانة وفرح وحماس في اختبار غنى الرحمة الإلهيّة. يمكن لجماعاتنا أن تبقى حيّة وديناميكيّة في عمل البشارة الجديدة بقدر ما يُطبع يوميًّا بقوّة الرحمة المُجدِّدة “الارتداد الراعوي” الذي دُعينا لعيشه. لا نحُدَّنَّ من عمله ولا نُحزنَنَّ الروح الذي يدلُّنا على الدوام على دروب جديدة نسيرها لنحمل للجميع الإنجيل الذي يخلّص. نحن مدعوون، في المقام الأول، للاحتفال بالرحمة. كم هي غنيّة صلاة الكنيسة عندما تتضرع إلى الله كأب رحوم! في الليتورجيّة نحن لا نطلب الرحمة مرارًا وتكرارًا وحسب وإنما ننالها حقًّا ونعيشها. منذ بداية الاحتفال الافخارستي وحتى نهايته تظهر الرحمة مرات عديدة في الحوار بين الجماعة المصلّية وقلب الآب الذي يفرح عندما يمكنه أن يفيض محبّته الرحيمة. بعد طلب المغفرة في البداية من خلال الدعاء “يا رب ارحم”، تتمّ تعزيتنا فورًا “رحمنا الله القدير وغفر لنا زلاّتنا- وبلَّغنا الحياة الأبديّة”. بهذه الثقة تجتمع الجماعة في حضور الرب لاسيما في يوم القيامة المقدّس. “صلوات جماعيّة” عديدة تهدف للتذكير بعطيّة الرحمة الكبيرة. خلال زمن الصوم على سبيل المثال نصلّي قائلين: “يا ينبوع الرحمة والجودة، يا من جعلت لنا في الصلاة والصوم والصدقة دواء شافيًا لخطايانا، أرمقنا بعين العطف وقد مثلنا بين يديك في ضعفنا وبؤسنا، وإذ يرهقنا وخز الضمير، أنهضنا أنت بيَدٍ قديرة” (كتاب القداس بحسب الطقس اللاتيني، الأحد الثالث من الزمن الأربعيني). ومن ثمَّ نغوص في الصلاة الإفخارستيّة الكبيرة ونعلن في مقدِّمة آحاد زمن السنة: “من فرطِ حبِّك العجيب لهذا العالم، أرسلت إلينا فاديًا سكن بيننا، شبيهًا بنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة” (المرجع نفسه، مقدِّمة آحاد زمن السنة ۷)، أما الصلاة الإفخارستية الرابعة فهي نشيد لرحمة الله: ” لقد بادَرْتَ بني البشر برحمتِك، وجعلتَهم يَبحثونَ عنك ويَجدونك”. “وإياك نسأل، أن تسبغ مراحمك علينا أجمعين” (المرجع نفسه، الصلاة الإفخارستيّة الثانية)، إنه الطلب المُلِحّ الذي يقوم به الكاهن في الصلاة الإفخارستيّة ليلتمس المشاركة في الحياة الأبديّة. بعد صلاة الأبانا يتابع الكاهن الصلاة سائلاً السلام والتحرُّر من الخطيئة قائلاً “أعضدنا برحمتِك”. وقبل علامة السلام الذي يتمُّ تبادله كتعبير عن الأخوّة والمحبّة المتبادلة في ضوء المغفرة التي نلناها يُصلّي مجدّدًا “لا تنظر إلى خطايانا، بل إلى إيمان كنيستك” (المرجع نفسه، رتبة التناول). من خلال هذه الكلمات وبثقة متواضعة نطلب عطيّة الوحدة والسلام للكنيسة الأم المقدّسة. يبلغ الاحتفال بالرحمة الإلهيّة ذروته في الذبيحة الإفخارستيّة، تذكار سرّ المسيح الفصحيّ الذي ينبثق منه الخلاص لكل كائن بشريّ وللتاريخ والعالم بأسره. وبالتالي فكل لحظة من الاحتفال الافخارستي تشير إلى رحمة الله. في الحياة الأسراريّة بكاملها تُمنح الرحمة لنا بوفرة. ولم تشأ الكنيسة عبثًا أن تذكّر بوضوح بالرحمة من خلال صيغة سرّين يُعرفان بـ “سرّا الشفاء” أي المصالحة ومسحة المرضى. وتقول صيغة الحلّ: “الله، إله المراحم الذي صالح العالم مع نفسه بموت وقيامة ابنه، ووهب الروح القدس لأجل غفران الخطايا، يمنحك من خلال خدمة الكنيسة، الغفران والسلام” (رتبة التوبة، عدد 46) أما صيغة المسحة فتقول: “بهذهِ المسحةِ المقدَّسة، وبرحمتهِ الواسعة، الربُّ الإلهُ يُشدِّدُك ويعضدُكَ بنعمةِ الروح القدُّس” (سرّ مسحة المرضى والعناية الراعويّة بالمرضى، عدد 76). إن الإشارة إلى الرحمة في صلاة الكنيسة إذًا، هي عمل فاعل وليست مجرّد صلاة ابتهال وتضرُّع. أي فيما نطلبها تُمنَح لنا، وفيما نعترف بأنّها حيّة وحقيقيّة تحوِّلنا بالفعل. هذا محتوى أساسي لإيماننا ينبغي علينا المحافظة عليه بأصالته كلها: قبل الكشف عن الخطيئة لدينا الكشف عن المحبّة التي من خلالها خلق الله العالم والكائنات البشريّة. المحبّة هي أول فعل يكشف فيه الله عن ذاته ويأتي إلى لقائنا. لنحافظ إذًا على قلبنا مفتوحًا على الثقة بأننا محبوبون من الله. إن محبّته تسبقنا على الدوام وترافقنا وتبقى بالقرب منا بالرغم من خطيئتنا.
٦. في هذا الإطار، يأخذ معنى مميّزًا أيضًا الإصغاء إلى كلمة الله. في كل أحد تُعلن كلمة الله في الجماعة المسيحيّة لكي يستنير يوم الرب من النور الذي ينبثق من السرّ الفصحي (راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور في الليتورجيا المقدّسة، عدد 106). في الاحتفال الإفخارستي يبدو لنا أننا نشاهد حوارًا حقيقيًّا بين الله وشعبه. خلال إعلان القراءات البيبليّة نستعيد تاريخ خلاصنا من خلال عمل الرحمة المستمرّ الذي يتمُّ إعلانه. إن الله يكلّمنا اليوم أيضًا كأصدقاء و”يتحاور” معنا (المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي كلمة الله، عدد 2) ليهبنا رفقتَه ويُظهر لنا درب الحياة. إن كلمته تترجم طلباتنا وقلقنا وجوابنا السخي لكي نختبر قربه بشكل ملموس. ما أكبر الأهميّة التي تكتسبها العظة حيث “ترافق الحقيقةُ الخيرَ والجمال” (الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل، عدد 142)، لتجعل قلوب المؤمنين تخفق أمام عظمة الرحمة! أوصي جدًّا بتحضير العظة والاهتمام بها، لأنها ستكون مثمرة أكثر عندما يكون الكاهن قد اختبر بنفسه صلاح الرب الرحيم. إن نقل اليقين بأن الله يحبّنا ليس ممارسة لفنِّ البلاغة وإنما شرط لمصداقيّة كهنوتنا. وبالتالي فعيش الرحمة هو الدرب الأساسيّ لجعلها إعلانًا حقيقيًّا للعزاء والارتداد في الحياة الراعويّة، وبالتالي ينبغي أن يعضد هذا القلب النابض للحياة المسيحية العظة والتعليم المسيحي.
۷. الكتاب المقدس هو الرواية العظيمة التي تتحدث عن روائع رحمة الله. إن كل صفحة مشبعة بمحبة الآب الذي شاء، منذ الخلق، أن يترك بصمات محبته في الكون. إن الروح القدس، ومن خلال كلمات الأنباء وأسفار الحكمة، صقل تاريخ إسرائيل عبر الإقرار بحنان الله وقربه، على الرغم من عدم أمانة شعبه. إن حياة يسوع وعظاته طبعت بشكل مقرّر تاريخ الجماعة المسيحية التي فهمت رسالتها الخاصة استنادا إلى دعوة المسيح لها لأن تكون أداة دائمة لرحمته ومغفرته (راجع يوحنا 20، 23). من خلال الكتاب المقدس، الذي يُبقيه إيمان الكنيسة حيًا، يتابع الرب كلامه مع عروسه ويدلها على الدروب التي ينبغي أن تسلكها، كي يصل إنجيل الخلاص إلى الجميع. أتمنى أن يتم الاحتفال بكلمة الله والتعرف عليها ونشرها كي نتمكن من خلالها أن نفهم بصورة أفضل سر المحبة المنبعثة من ينبوع الرحمة. وهذا ما يذكّر به بوضوح الرسول “فكُلُّ ما كُتِبَ هو مِن وَحيِ الله، يُفيدُ في التَّعْليمِ والتَّفنْيدِ والتَّقْويمِ والتَّأديبِ في البِرّ” (2 تيموثاوس 3، 16). من الأهمية بمكان أن تتمكن كل جماعة، في يوم أحد من السنة الليتورجية، من تجديد التزامها في نشر ومعرفة والتعمق في الكتاب المقدس: تخصيص يوم أحد بالكامل لكلمة الله، كي نفهم الغنى الذي لا ينضب والمتأتي من هذا الحوار المتواصل الذي يقيمه الله مع شعبه. ولن ينقص الإبداع الكفيل بإغناء هذه اللحظات من خلال مبادرات تحفّز المؤمنين على أن يكونوا أدوات حية لنقل الكلمة. ومن بين هذه المبادرات، هناك بالطبع الانتشار الواسع للقراءة الإلهية lectio divina، كي تجد الحياة الروحية سندًا ونموًا بواسطة القراءة المصلية للنصوص المقدسة. إن القراءة الإلهية lectio divina حول مواضيع الرحمة ستسمح بأن نلمس لمس اليد مدى الخصوبة النابعة من النص المقدس الذي يُقرأ في ضوء التقليد المسيحي الكامل للكنسية، ويُفضي بالضرورة إلى بوادر وأعمال رحمة محبة ملموسة (راجع بندكتس السادس عشر، الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس كلمة الرب، 86-87).
۸. إن الاحتفال بالرحمة يتم بشكل مميّز من خلال سر المصالحة. إن هذه هي اللحظة التي نشعر فيها بمعانقة الآب الذي يلاقينا ليعيد إلينا نعمة أن نكون أبناءه من جديد. إننا خطأة ونحمل معنا ثقل التناقض بين ما نريد أن نفعل وما نفعله في الواقع (راجع روما 7، 14-21)؛ لكن النعمة تسبقنا دائما، وتلبس وجه الرحمة الذي يصير فاعلا في المصالحة والمغفرة. إن الله يجعلنا نفهم محبته الهائلة أمام كوننا خطأة. النعمة أقوى، وتتغلب على كل ما يقاومها لأن المحبة تنتصر على كل شيء (راجع 1 كورنتوس 13، 7). في سر الغفران يدل الله على درب التوبة والرجوع إليه، ويدعو إلى اختبار قربه من جديد. يمكن الحصول على هذه المغفرة بدءا من عيش المحبة. وهذا ما يذكّر به أيضا بطرس الرسول عندما يكتب “المَحبَّةُ تَستُرُ كَثيرًا مِنَ الخَطايا” (1 بطرس 4، 8). الله وحده يغفر الخطايا لكنه يطلب منا نحن أيضا أن نكون جاهزين لنغفر للآخرين كما يغفر لنا: “وأَعْفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه” (متى 6، 12). يا للحزن عندما نبقى منغلقين على ذواتنا وعاجزين عن المغفرة! هكذا يتغلب الحقد، والغضب، والثأر ما يجعل الحياة حزينة ويقضي على الالتزام الفرح لصالح الرحمة.
۹. لقد شكلت خدمة مرسلي الرحمة خبرة نعمة عاشتها الكنيسة بفعالية خلال السنة اليوبيلية. إن عملهم الرعوي أظهر أن الله لا يضع حدودا أمام من يبحثون عنه بقلب تائب، لأنه يلاقي الجميع كأب. لقد استمعت إلى شهادات كثيرة من الفرح بسبب اللقاء المتجدد مع الرب من خلال سر الاعتراف. دعونا لا نضيّع فرصة عيش الإيمان كخبرة مصالحة. “دَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم” (2 كورنتوس 5، 20) هذه هي الدعوة التي يوجهها الرسول في يومنا هذا كي يكتشف كل مؤمن قوة المحبة التي تجعل منه “خَلْقاً جَديدًا” (2 كورنتوس 5، 17). أُعبِّر عن امتناني لكل واحد من مرسلي المحبة على هذه الخدمة الثمينة التي قدموها ليجعلوا نعمة المغفرة فاعلة. لكن هذه الخدمة الاستثنائية لا تنتهي مع إغلاق الباب المقدس. أود في الواقع أن يبقى حتى إشعار آخر كعلامة ملموسة لنعمة اليوبيل التي تبقى حية وفاعلة في مختلف أنحاء العالم. سيقوم المجلس البابوي لتعزيز الكرازة الجديدة بالإنجيل بمرافقة مرسلي الرحمة في هذه الفترة، كتعبير مباشر عن اهتمامي وقربي، وبإيجاد الأشكال الأكثر ملاءمة من أجل ممارسة هذه الخدمة الثمينة.
١۰. أجدد دعوتي للكهنة كي يستعدوا جيدا لخدمة الاعتراف، والتي هي رسالة كهنوتية واقعية. أشكركم بحرارة على خدمتكم وأطلب منكم أن تكونوا مضيافين مع الجميع؛ شهودًا للحنان الأبوي على الرغم من فداحة الخطيئة؛ عونا في التأمل بالشر المرتكب؛ واضحين في شرحكم للمبادئ الخلقية؛ جاهزين لمرافقة المؤمنين في مسيرة التوبة، مواكبين خطاهم بصبر؛ بعيدي النظر في تفحّص كل حالة على انفراد؛ أسخياء في منح مغفرة الله. كما قرر يسوع أمام المرأة الزانية أن يلزم الصمت لينقذها من عقوبة الموت، فليكن الكاهن في كرسي الاعتراف رحب الصدر مدركًا أن كل تائب يذكّره بحالته الشخصية: خاطئ لكنه خادم للرحمة.
١١. أود أن نتأمل جميعا بكلمات الرسول، التي دوّنها في آخر مراحل حياته، عندما اعترف لتيموثاوس بأنه أول الخطأة “كان قد رُحِمَ” (راجع 1 تيموثاوس 1، 16). لكلماته قوة كبيرة تحملنا نحن أيضا على التفكير بوجودنا كي نرى رحمة الله تعمل في تغيير قلبنا وارتداده وتبديله “وأَشكُرُ المَسيحَ يَسوعَ ربَّنا الذي قَوَّاني، إِذْ إِنَّهُ عَدَّني أَمينًا فَنَصَبَني لخدمتِهِ، أَنا الذي كانَ مِن قَبلُ مُجدِّفًا ومُضطهِدًا وشاتِمًا. غَيرَ أَنّي رُحِمْتُ” (1 تيموثاوس 1، 12-13). لذا لنتذكر بشغف رعوي متجدد كلمات الرسول “الله الذي صالَحَنا مَعَ نَفْسِه بالمسيحِ، وائْتمنَنا على خِدْمَةِ المُصالَحة” (2 كورنتوس 5، 18). نحن أول من غُفر لنا من أجل القيام بهذه الخدمة؛ وأصبحنا شهودًا لشمولية الغفران. لا يوجد أي حكم أو شريعة يمنعان الله من معانقة ابنه العائد إليه مقرًّا بأنه أخطأ، لكنه عازم على البدء من جديد. إن التوقف عند الشريعة يعني جعل الإيمان والرحمة الإلهية بلا جدوى. ثمة قيمة تمهيدية في الشريعة (راجع غلاطية 3، 24) وغايتها المحبة (راجع 1 تيموثاوس 1، 5). مع ذلك إن المسيحي مدعو لعيش حداثة الإنجيل “شَريعة الرُّوحِ الَّذي يَهَبُ الحَياةَ في يسوعَ المسيح” (روما 8، 2). حتى في الحالات الأكثر تعقيدا، حيث جرت محاولة تغليب عدالة تتأتى فقط من القواعد، لا بد من الإيمان بالقوة النابعة من الرحمة الإلهية. نحن المُعرِّفين لدينا خبرة في العديد من حالات الارتداد التي تحصل أمام أعيننا. ونشعر بالتالي بمسؤولية الأفعال والكلمات التي يمكن أن تصل إلى عمق أعماق قلب التائب كي يكتشف قرب وحنان الآب الذي يغفر. لا نقومَنَّ بإفساد هذه اللحظات من خلال تصرفات يمكن أن تناقض خبرة الرحمة المطلوبة. دعونا نساعد في إنارة فسحة الضمير الشخصي بواسطة محبة الله اللامتناهية (راجع 1 يوحنا 3، 20). لا بد أن يجد سر المصالحة من جديد مكانته المركزية في حياة المسيحية؛ لذا يتطلّب كهنة يضعون حياتهم في “خِدْمَةِ المُصالَحة” (2 كورنتوس 5، 18) بشكل تُقدَّم فيه للجميع فرصة اكتشاف قوة الغفران المحرِّرة، دون أن يُحرم أي شخص تائب فعلا من الوصول إلى محبة الآب الذي ينتظر رجوعه. ويمكن أن يشكل مناسبة ملائمة الاحتفالُ بمبادرة 24 ساعة من أجل الرب في فترة قريبة من الأحد الرابع من زمن الصوم، والتي وجدت تأييدا كبيرا في العديد من الأبرشيات وما تزال تشكل دعوة رعوية قوية لعيش سر الاعتراف بزخم.
١۲. استنادا إلى هذه الحاجة، وكي لا يقف أي عائق بين طلب المصالحة ومغفرة الله، أمنح الآن جميع الكهنة، وبقوة خدمتهم، سلطان منح الحلة لمن ارتكبوا خطيئة الإجهاض. إن ما منحتُه لفترة محددة تقتصر على زمن اليوبيل (راجع الرسالة التي يُمنح بموجبها الغفران الكامل لمناسبة يوبيل الرحمة، 1 أيلول سبتمبر 2015) سيُمدد الآن في الزمان على الرغم من أي شيء مخالف لذلك. أود أن أؤكد بكل قواي أن الإجهاض خطيئة فادحة، لأنه يقتل حياة بريئة. ولكن بالقوة نفسها، أستطيع ويجب أن أؤكد أنه لا توجد أي خطيئة لا يمكن أن تبلغها وتقضي عليها رحمة الله عندما تجد قلبا تائبا يريد أن يتصالح مع الآب. فليكن بالتالي كل كاهن قدوة وعضدا وعزاء خلال مرافقة التائبين في مسيرة المصالحة الخاصة هذه. خلال سنة اليوبيل منحت المؤمنين، الذين ولأسباب مختلفة يترددون إلى كنائس يشرف عليها كهنة أخوية القديس بيوس العاشر، إمكانية الحصول على الحلة الأسرارية المشروعة لخطاياهم (راجع المرجع نفسه). من أجل المصلحة الرعوية لهؤلاء المؤمنين، وإذ أثق بالإرادة الطيبة لكهنتهم بغية استعادة الشركة التامة مع الكنيسة الكاثوليكية بعون الله، أمدد بقرار مني هذه السلطة إلى ما بعد الزمن اليوبيلي، وحتى إشعار آخر بهذا الشأن، كي لا يفتقد أحد إلى العلامة الأسرارية للمصالحة من خلال مغفرة الكنيسة.
١۳. إن الرحمة تحمل أيضا وجه العزاء. “عَزُّوا عَزُّوا شَعبي” (أشعياء 40، 1) إنها الكلمات النابعة من القلب التي يُسمعها النبيُ اليوم، كي تصل كلمة الرجاء إلى ضحايا المعاناة والألم. دعونا لا نترك أحدا يسلب منا الرجاء المتأتي من الإيمان بالرب القائم من الموت. صحيح أننا غالبا ما نُمتحن لكن لا بد من الحفاظ على الثقة بأن الرب يحبنا. ورحمته تُعبِّر عن ذاتها أيضا من خلال قرب وعاطفة وعضد الكثير من الأخوة والأخوات عندما يأتي يوم الأحزان والمصائب. تجفيف الدموع هو عمل ملموس يكسر حلقة الوحدة التي غالبا ما ننغلق فيها. جميعنا نحتاج إلى العزاء لأن لا أحد مستثنى من المعاناة والألم وسوء الفهم. كم من الألم يمكن أن تسببه كلمة بغيضة، ثمرة الحسد، والغيرة والغضب! كم من المعاناة تولدها خبرة الخيانة والعنف والهجر؛ كم من المرارة نشعر بها أمام موت الأحباء! مع ذلك إن الله لا يكون بعيدا أبدا عندما تقع هذه المآسي. كلمة مشجعة، عناق يُشعرك بأنك مفهوم، لمسة تجعلنا نستشعر بالحب، صلاة تزيدنا قوة… كل هذه الأمور هي تعبير عن قرب الله من خلال العزاء الذي يقدمه الإخوة. أحيانا يمكن أن يساعدنا الصمت؛ لأنه أحيانا لا توجد الكلمات المناسبة لتقديم أجوبة على تساؤلات من يتألم. يمكن أن تعوّض عن غياب الكلمة رأفة الشخص الحاضر والقريب، الذي يحب ويمد يده. غير صحيح أن الصمت هو علامة الاستسلام، بل على العكس، إنه لحظة قوة ومحبة. حتى الصمت هو جزء من لغة العزاء لأنه يتحول إلى عمل ملموس من مقاسمة ومشاركة آلام الأخ.
١٤. في مرحلة دقيقة مثل هذه، حيث توجد أزمات كثيرة من بينها أزمة العائلة، من الأهمية بمكان أن تصل كلمة مفعمة بالقوة المعزية إلى عائلاتنا. إن عطية الزواج لهي دعوة عظيمة تتماشى مع الحب السخي والأمين والصبور، بنعمة المسيح. إن جمال العائلة لا يتغيّر، على الرغم من النواحي المظلمة والمقترحات البديلة: “إن فرح الحب الذي يُعاش في العائلة هو أيضا فرح الكنيسة” (الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس فرح الحب، 1). إن درب الحياة الذي يحمل بالرجل والمرأة نحو التلاقي والحب ويعدان أمام الله بعيش الأمانة إلى الأبد، غالبا ما ينقطع بسبب المعاناة والخيانة والوحدة. إن الفرح الناجم عن عطية الأبناء ليس محصَّنًا من قلق الوالدين بشأن نموهم وتنشئتهم، وبشأن مستقبل يستأهل أن يُعاش بزخم. إن نعمة سر الزواج لا تقوي العائلة فحسب لتصير فسحة مميزة تُعاش فيها الرحمة، بل تُلزِم الجماعة المسيحية وكل العمل الرعوي بإبراز القيمة العظيمة التي تقترحها العائلة. ينبغي ألا تُبعد هذه السنة اليوبيلية أنظارنا عن تعقيد الوضع العائلي الحالي. إن خبرة الرحمة تجعلنا قادرين على النظر إلى كل الصعوبات البشرية من وجهة نظر محبة الله التي لا تكلّ من قبول الأشخاص ومرافقتهم (راجع المرجع نفسه، 291 – 300). لا يسعنا أن ننسى أن كل شخص يحمل بداخله غنى وثقل تاريخه الخاص، الذي يميزه عن أي شخص آخر. إن حياتنا، مع أفراحها وأتراحها، هي شيء فريد من نوعه لا يتكرر، يمرّ أمام نظرة الله الرحومة. هذا يتطلب قبل كل شيء من قبل الكاهن تمييزًا روحيًا يقظًا، عميقا وبعيد النظر كي يشعر كل شخص، بدون أي استثناء وبغضِّ النظر عن الأوضاع التي يعيش فيها، بأنه مقبول من الله ويتمكن من المشاركة بشكل فاعل في حياة الجماعة ويصير جزءا من شعب الله الذي يسير بلا كلل نحو ملء ملكوت الله، ملكوت العدالة والمحبة والغفران والرحمة.
١٥. تكتسب لحظة الموت أهمية خاصة. لقد عاشت الكنيسة دائمًا هذا العبور المأساوي في ضوء قيامة يسوع المسيح التي فتحت الطريق ليقين الحياة الآتية. أمامنا تحدّ كبير علينا أن نقبله، لاسيما في الثقافة المعاصرة التي تميل غالبًا إلى ابتذال الموت إلى حدّ تجاهله أو إخفائه. ينبغي بالأحرى مواجهة الموت والاستعداد له كعبور أليم ومحتّم لكنه مليء بالمعنى: أقصى فعل محبة تجاه الأشخاص الذين يفارقون وتجاه الله الذي يتم الذهاب للقائه. يرافق لحظةَ الموت، في جميع الديانات، وكلحظة الولادة، حضورٌ ديني. إننا نعيش اختبار الجنازة كصلاة مفعمة بالرجاء من أجل نفس الميت ولتعزية المتألمين لفراق الشخص العزيز. كلي ثقة أننا نحتاج في العمل الرعوي الذي يحرّكه إيمان حيّ، إلى أن يُلمس لمس اليد كم أن العلامات الليتورجية وصلواتنا هي تعبير عن رحمة الرب. فهو نفسه من يقدّم كلمات رجاء، لأنه لا يمكن أبدًا لشيء أو أحد أن يفصلنا عن محبته (راجع روما 8، 35). إن مشاركة هذه اللحظة من قبل الكاهن لهي مرافقة هامة لكونها تسمح بعيش القرب من الجماعة المسيحية في لحظة الضعف والوحدة، الارتياب والبكاء.
١٦. يُختتم اليوبيل ويُغلق الباب المقدس، لكن باب رحمة قلبنا يبقى دائمًا مشرّعًا. لقد تعلّمنا أن الله ينحني علينا (راجع هوشع 11، 4) كي نتمكّن نحن أيضا من أن نتشبّه به في انحنائنا على الإخوة. إن حنين كثيرين للعودة إلى بيت الآب الذي ينتظر قدومهم، يحّركه أيضا شهود صادقون وأسخياء للحنان الإلهي. إن الباب المقدس الذي عبرناه في هذه السنة اليوبيلية قد وضعنا على درب المحبة التي نحن مدعوون للسير عليها يوميًّا بأمانة وفرح. إنها درب الرحمة التي تسمح بلقاء إخوة وأخوات كثيرين يمدّون اليد كي يتمكّن أحد من إمساكها للسير معًا. إن الرغبة في أن نكون قريبين من المسيح تتطلّب أن نكون قريبين من الإخوة، لأن ما من شيء يرضي الآب أكثر من علامة رحمة ملموسة. إن الرحمة، وبطبيعتها، تصبح مرئية وملموسة في عمل محسوس وديناميكي. وعند اختبارها في حقيقتها، فلا عودة أبدًا إلى الوراء: إنها تنمو باستمرار وتبدّل الحياة. إنها خليقة جديدة حقيقية تصنع قلبًا جديدًا قادرًا على أن يحب بشكل كامل، وتنقّي العيون كي ترى الاحتياجات الخفيّة. كم هي حقيقية الكلمات التي تصلّي بها الكنيسة في العشية الفصحية بعد قراءة رواية الخلق: ” اللهمَّ يا من خلقتَ الإنسانَ على صورتِك ومثالِك خلقًا عجيبًا، وبطريقةٍ أعجبَ فديَتَهُ” (كتاب القداس بحسب الطقس اللاتيني، العشية الفصحية، الصلاة بعد القراءة الأولى). الرحمة تجدّد وتخلّص، لأنها لقاء قلبين: قلب الله الذي يأتي للقاء قلب الإنسان، فيشعر الأخير بالدفء فيما قلب الله يشفيه: يتحوّل قلب الحجر إلى قلب من لحم (راجع سفر حزقيال 36، 26)، قادر على أن يحبّ بالرغم من خطيئته، فيدرك أنه حقًّا “خلق جديد” (راجع غلاطية 6، 15): أنا محبوب إذًا أنا موجود؛ لقد غُفر لي، وبالتالي أولد ثانية لحياة جديدة؛ لقد رُحمت، وبالتالي أُصبح أداة رحمة.
١۷. خلال السنة المقدسة، لاسيما في “جمعة الرحمة”، تمكّنت من أن ألمس لمس اليد كم من الخير موجود في العالم. وغالبًا ما يكون مجهولاً لأنه يتحقق يوميًا بشكل متواضع وصامت. وحتى إن لم يتناقلها الإعلام، هناك الكثير من العلامات الملموسة للصلاح والحنان الموجّهة إلى الأكثر صغرًا وضعفًا، إلى الوحيدين والمتروكين. هناك حقًا رواد المحبة الذين لا يبخلون بالتضامن على الأكثر فقرًا وتعاسة. نشكر الرب على هذه العطايا الثمينة التي تدعو إلى اكتشاف فرح أن نكون قريبين إزاء ضعف البشرية المجروحة. وبامتنان، أفكر في العديد من المتطوعين الذين يكرّسون كل يوم وقتهم لإظهار حضور الله وقربه من خلال تفانيهم. إن خدمتهم هي عمل رحمة صادق يساعد أشخاصًا كثيرين على الاقتراب من الكنيسة.
١۸. حان الوقت لإفساح المجال أمام إبداع الرحمة من أجل إطلاق أعمال جديدة كثيرة، ثمرة النعمة. تحتاج الكنيسة إلى أن تُخبر اليوم عن تلك “الآيات الأخرى الكثيرة “التي صنعها يسوع “ولم تُكتب” (يوحنا 20، 30)، كي تكون تعبيرًا بليغًا عن خصوبة محبة المسيح والجماعة التي تحيا منه. لقد مرّ أكثر من ألفي عام، ومع ذلك، تستمرّ أعمال الرحمة في جعل صلاح الله مرئيًا. لا تزال شعوب برمّتها تعاني حتى اليوم من الجوع والعطش، وكم من القلق تسبّبه صور أطفال ليس لديهم ما يأكلونه. جموع من الأشخاص تواصل الهجرة من بلد إلى آخر بحثًا عن الطعام والعمل والمسكن والسلام. إن المرض، وبأنواعه المختلفة، هو سبب دائم للألم الذي يستلزم المساعدة والعزاء والدعم. السجون هي أماكن غالبًا ما تُضاف فيها إلى العقوبة المقيّدة مصاعب تكون خطيرة في بعض الأحيان، ناتجة عن أوضاع حياة غير إنسانية. لا تزال الأمّية منتشرة جدًا وتحرم الأطفال من أن يتعلّموا وتعرّضهم لأشكال جديدة من العبودية. إن ثقافة الفردانية المنتشرة لاسيما في الغرب، تؤدي إلى فقدان معنى التضامن والمسؤولية إزاء الآخرين. إن الله نفسه يظل مجهولاً اليوم بالنسبة لكثيرين؛ وذلك يمثّل الفقر الأكبر والعائق الأعظم أمام الاعتراف بكرامة الحياة البشرية غير القابلة للانتهاك. بكلمة، تشكل أعمال الرحمة الجسدية والروحية حتى يومنا هذا التأكيد على التأثير الكبير والإيجابي للرحمة كقيمة اجتماعية. إنها تدفع في الواقع إلى أن نشمّر عن سواعدنا من أجل إعادة الكرامة لملايين الأشخاص الذين هم إخوتنا وأخواتنا المدعوون معنا لبناء “مدينة موثوق بها” (الرسالة العامة. نور الإيمان، 50).
١۹. كثيرة هي علامات الرحمة الملموسة التي تحققت خلال هذه السنة المقدسة. جماعات، عائلات ومؤمنون أفراد قد اكتشفوا مجددًا فرح المشاركة وجمال التضامن. لكن هذا غير كاف. يستمر العالم في خلق أشكال جديدة من الفقر الروحي والمادي تسيء إلى كرامة الأشخاص. ولهذا، ينبغي على الكنيسة أن تكون دائمًا يقظة وجاهزة لتحديد أعمال رحمة جديدة وتحقيقها بسخاء وحماس. لنبذل إذا كل جهد من أجل إعطاء أشكال ملموسة للمحبة، وبصيرة، في الوقت نفسه، لأعمال الرحمة. لهذه الأخيرة عمل شامل، ولذا تميل إلى الاتساع كبقعة زيت ولا تعرف حدودًا. وعلى هذا النحو، فنحن مدعوون لإعطاء وجه جديد لأعمال الرحمة التي عرفناها دائمًا. إن الرحمة في الواقع تتقدّم؛ تذهب دائمًا إلى ما هو أبعد، هي مثمرة. إنها كالخميرة التي تخمّر العجين (راجع متى 13، 33) وكحبة الخردل التي تصبح شجرة (راجع لوقا 13، 19). يكفي التفكير، على سبيل المثال، بعمل الرحمة الجسدية إكساء العريان (راجع متى 25، 36. 38. 43. 44). إنه يعيدنا إلى البدء، إلى جنّة عدن، حين اكتشف آدم وحوّاء أنهما عريانان، وإذ شعرا باقتراب الرب، أحسّا بالخجل واختبآ (راجع سفر التكوين 3، 7 ـ 8). نعلم أن الرب عاقبهما، ولكنه “صنع لآدم وامرأته أقمصةً من جلدٍ وألبسهما” (سفر التكوين 3، 21). لقد تمّ تخطي الخجل واستُعيدت الكرامة. لنثبّت النظر أيضًا على يسوع على الجلجلة. إن ابن الله عريان على الصليب؛ أخذ الجنود قميصه واقترعوا عليه (راجع يوحنا 19، 23 ـ 24)؛ لم يعد لديه شيء. وعلى الصليب، تظهر إلى أقصى حد مشاركة يسوع مع من فقدوا الكرامة لأنهم محرومون من الضروري. وكما أن الكنيسة مدعوة لتكون “قميص المسيح” (راجع قبريانوس، وحدة الكنيسة الكاثوليكية، 7) لتكسو ربّها، فهكذا هي ملتزمة بالتضامن مع عراة الأرض كي يستعيدوا الكرامة التي جُرّدوا منها. “(كنتُ) عريانًا فكسوتموني” (متى 25، 36)، تُلزم بالتالي بعدم تحويل النظر عن الأشكال الجديدة من الفقر والتهميش التي تمنع الأشخاص من العيش بكرامة. إن غياب العمل وعدم الحصول على أجر ملائم؛ وعدم التمكّن من الحصول على مسكن أو على أرض للسكن؛ التعرّض للتمييز بسبب الإيمان، العرق، الحالة الاجتماعية…: إن هذه وأخرى كثيرة هي أوضاع تسيء إلى كرامة الإنسان، وأمامها، يجيب العمل الرحوم للمسيحيين، وقبل كل شيء، باليقظة والتضامن.كم من الأوضاع نستطيع فيها اليوم إعادة الكرامة للأشخاص وتوفير حياة إنسانية! يكفي التفكير بأطفال كثيرين يتعرّضون لأشكال مختلفة من العنف تسلبهم فرح الحياة. إن وجوههم الحزينة والتائهة مطبوعة في ذهني؛ يسألوننا المساعدة كي يتحرّروا من عبوديات العالم المعاصر. هؤلاء الأطفال هم شباب الغد؛ كيف نقوم بإعدادهم للعيش بكرامة ومسؤولية؟ بأي رجاء يستطيعون مواجهة حاضرهم ومستقبلهم؟ يقتضي الطابع الاجتماعي للرحمة عدم البقاء مكتوفي الأيدي وإبعاد اللامبالاة والرياء، كي لا تبقى الخطط والمشاريع حبرًا على ورق. ليساعدنا الروح القدس كي نكون مستعدين دائمًا لتقديم إسهامنا بطريقة فعالة ومتجرّدة، لئلا تبقى العدالة والحياة الكريمة مجرّد كلمات شكلية، بل تكونان الالتزام الملموس لمن يريد الشهادة لحضور ملكوت الله.
۲۰. إننا مدعوون لتنمية ثقافة الرحمة، المرتكزة إلى إعادة اكتشاف اللقاء مع الآخرين: ثقافة لا ينظر فيها أحد إلى الآخر بلامبالاة ولا يحوّل نظره حين يرى معاناة الإخوة. إن أعمال الرحمة “يدوية”: لا تشبه أي منها الأخرى؛ تستطيع أيادينا أن تشكّلها بألف طريقة، ومع أن الله الذي يلهمها هو واحد، وواحدة هي “المادة” المصنوعة منها، أي الرحمة نفسها، تتّخذ كل واحدة شكلاً مختلفًا. في الواقع، إن أعمال الرحمة تلمس حياة الإنسان بكاملها. ولهذا، يمكننا إعطاء حياة لثورة ثقافية حقيقية انطلاقًا من بساطة أعمال قادرة على أن تبلغ الجسد والروح، أي حياة الأشخاص. إنه التزام تستطيع الجماعة المسيحية أن تتبنّاه يقينًا أن كلمة الرب تدعوها دائمًا للخروج من اللامبالاة والفردانية اللتين قد تنغلق فيهما من أجل عيش حياة مريحة خالية من المشاكل. “إن الفقراءَ هم عندكم دائمًا أبدًا” (يوحنا 12، 8)، يقول يسوع لتلاميذه. لا توجد أعذار يمكنها أن تبرّر التقاعس، ونحن نعلم أنه تماهى مع كل واحد منهم. إن ثقافة الرحمة تتكوّن في الصلاة المثابرة والانفتاح بطواعية على عمل الروح القدس، وفي الألفة مع حياة القديسين والقرب الملموس من الفقراء. إنها دعوة ملحّة لعدم إساءة فهم أين يجب أن نلتزم. إن تجربة ممارسة “نظرية الرحمة” يتم تخطيها بمقدار ما تصبح حياة يومية من المشاركة والمقاسمة. ومن جهة أخرى، لا ينبغي أن ننسى أبدًا كلمات بولس الرسول، متحدثًا عن لقائه مع بطرس، يعقوب ويوحنا، بعد الارتداد، والتي من خلالها يُبرز ناحية جوهرية لرسالته وللحياة المسيحية كلها :” أن نتذكَّرَ الفقراءَ، وهذا ما اجتَهَدتُ أن أقومَ به” (غلاطية 2، 10). لا يمكننا أن ننسى الفقراء: إنها دعوة آنية أكثر من أي وقت مضى تفرض نفسها لوضوحها الإنجيلي.
۲١. إن خبرة اليوبيل تطبع فينا كلمات بطرس الرسول :”كنتم لا تنالونَ الرحمة، وأمَّا الآنَ فقد نلتُمُ الرحمة” (1 بطرس 2، 10). لا نحتفظنَّ لأنفسنا فقط، وبغيرة، ما نلناه؛ لنتعلّم أن نتقاسمه مع الإخوة المتألمين كي تؤازرهم قوة رحمة الآب. لتنفتح جماعاتنا على بلوغ الذين يعيشون في أراضيها كي تصل إلى الجميع لمسة حنان الله من خلال شهادة المؤمنين. إنه زمن الرحمة. إن كل يوم في مسيرتنا مطبوع بحضور الله الذي يقود خطانا بقوة النعمة التي يفيضها الروح القدس في القلب ليشكّله ويجعله قادرًا على أن يحب. إنه زمن الرحمة للجميع ولكل واحد، كي لا يشعر أحد بأنه بعيد عن قرب الله وقوة حنانه. إنه زمن الرحمة كي يتمكّن الضعفاء والعزّل والبعيدون والوحيدون من الشعور بحضور الإخوة والأخوات الذين يعضدونهم في الاحتياجات. إنه زمن الرحمة كي يشعر الفقراء أنهم موضع نظرة احترام وانتباه الذين يكتشفون ما هو أساسي في الحياة، من خلال التغلّب على اللامبالاة. إنه زمن الرحمة كي لا يتعب أي خاطئ من طلب المغفرة ومن الشعور بيد الآب الذي يستقبل دائمًا ويعانق. في ضوء “يوبيل الأشخاص المُهَمّشين اجتماعيا”، وفيما كان يتمُّ إغلاق أبواب الرحمة في جميع كاتدرائيات ومزارات العالم، أدركت أنه يجب، وكعلامة ملموسة إضافية لهذه السنة المقدسة الاستثنائيّة، الاحتفالَ في الكنيسة جمعاء، في الأحد الثالث والثلاثين من زمن السنة، باليوم العالمي للفقراء. وسيكون هذا أجدر استعدادًا لعيش عيد ربنا يسوع المسيح ملك الكون، الذي تشبّه بالصغار وبالفقراء وسوف يديننا على أعمال الرحمة (را. متى 25، 31- 46). إن هذا اليوم سيساعد الجماعات وكلّ معمّد على التفكير حول كيف أن الفقر هو في جوهر الإنجيل وحول واقع أنه، لطالما سيبقى لعازار ملقى عند باب بيتنا (را. لو 16، 19- 21)، لن يكون هناك عدل ولا سلام اجتماعي. وسيشكّل هذا اليوم أيضًا شكلاً حقيقيا من أشكال البشارة الجديدة (را. متى 11، 5)، يُجَدَّد بواسطته وجه الكنيسة في عملها، عمل الارتداد الراعوي المستمر كي تكون شاهدة للرحمة.
۲۲. لتُكن النظرة الرحيمة لأمّ الله القديسة موجَّهة دائما نحونا. إنها أول من يفتح الطريق ويرافقنا في شهادة المحبة. تجمع أمّ الرحمة الكل تحت ذيل حمايتها، مثلما أراد الفنّ غالبًا أن يصوّرها. لنتّكل على معونتها الوالدية ولنتبع إرشادها الدائم للنظر إلى يسوع، الوجه المشع لرحمة الله.
إذاعة الفاتيكان
الوسوم :"رحمة وبؤس": رسالة البابا فرنسيس الرسوليّة بمناسبة اختتام يوبيل الرحمة