طويت أمس 93 عاماً من تاريخ مصر هي عمر الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل أمضى أكثرها عاملاً في الصحافة، وكان شاهداً على أحوال مصر منذ الملكية، إلى دوره السياسي البارز صديقاً للرئيس جمال عبدالناصر ومناوئاً لخلفه أنور السادات.
من مسجد الحسين في القاهرة إلى مقابر عائلته في مصر الجديدة، واكب رسميون وصحافيون ومواطنون هيكل إلى مثواه الأخير. ويُنسب إليه قوله قبيل وفاته: “الرحلة انتهت لا تعاندوا القدر” بعدما تدهورت صحته.
وشارك في التشييع الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي والأمين العام الأسبق عمرو موسى، وعبد الحكيم نجل عبد الناصر، والمرشح للرئاسة حمدين صباحي، إلى إعلاميين ورؤساء تحرير صحف ونقيب الصحافيين يحيى قلاش.
وعاد إلى القاهرة رجل الأعمال حسن محمد حسنين هيكل للمشاركة في وداع والده. ونقل موقع محطة “العربية” عن الصحافي صلاح منتصر أنه رجع حين تدهورت حال أبيه. وحسن هيكل أحد المتهمين في قضية التلاعب في البورصة بالاشتراك مع نجلي الرئيس المصري سابقاً حسني مبارك، علاء وجمال. وأصدرت محكمة جنايات القاهرة أمراً بضبطه وإحضاره، وقرر النائب العام إدراج اسمه على لوائح ترقب الوصول لهروبه خارج البلاد. غير أن منتصر ناشده عدم توقيفه.
ونعى الرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي “ببالغ الحزن والأسى” هيكل الذي كان “علماً صحافياً قديراً، أثرى الصحافة المصرية والعربية بكتاباته وتحليلاته السياسية”.
وبث التلفزيون المصري نبأ “وفاة الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل بعد صراع مع المرض”.
ونعت صحيفة “الأهرام” في موقعها الالكتروني “فقيد الصحافة العربية” الذي كان رئيس تحريرها طوال 17 سنة. وأوضحت أن حاله الصحية “ساءت منذ ثلاثة أسابيع حين بدأ بالخضوع لعلاج مكثف في محاولة لإنقاذ حياته، بعد تعرضه لأزمة شديدة بدأت بمياه على الرئة رافقها فشل كلوي استدعى غسيل الكلى ثلاث مرات أسبوعياً”.
وقالت نقابة الصحافيين في بيان إنه “أعطى للإنسانية والأمة العربية ومصر جهده وفكره وصلابة موقفه وريادته الفذة في مهنة الصحافة وفي الكتابة الصحفية”. ورأى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب أن الأمة العربية فقدت “مثقفًا وكاتباً كبيراً وموسوعياً”.
وأشاد الأزهر بدوره “في إثراء الحياة السياسية والصحفية بكتاباته الراقية التي ساهمت في تشكيل وعي كثير من المصريين ونهضت بالصحافة المصرية”.
شاهد على تاريخ مصر
ولد هيكل في قرية باسوس بمحافظة القليوبية شمال القاهرة في 21 أيلول 1923، واتجه فور انتهاء دراسته في جامعة القاهرة الى الصحافة. ولمع نجمه مع انقلاب الجيش الذي أطاح الملك فاروق في تموز 1952. فقد كان صديقاً لعبد الناصر.
وتولى رئاسة تحرير “الأهرام” حتى عام 1974. كذلك تولى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة “أخبار اليوم” ومجلة “روز اليوسف” في مرحلة الستينات من القرن الماضي. وعام 1970، عين وزيراً للإرشاد القومي. وكان عضواً في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي بين عامي 1968 و1974.
وأسند إليه عبد الناصر الإشراف على وزارة الخارجية فترة قصيرة، بينما كانت مصر تخوض حرب استنزاف مع إسرائيل وتستعد لاسترداد سيناء التي احتلتها اسرائيل عام 1967.
وكان هو من يكتب خطب عبد الناصر، وواصل القيام بذلك مع السادات سنوات قبل أن يختلفا بعد حرب أكتوبر عام 1973. وكان هيكل مستشاراً لعبد الناصر الى رحيله في 28 أيلول 1970 وأصدر كتباً تدافع عن مشروعه للوحدة العربية، منها “لمصر لا لعبد الناصر”.
وزج السادات هيكل في السجن مع 1536 من السياسيين والمفكرين في ما عرف بــ”اعتقالات أيلول 1981″ قبل أن يفرج عنه مبارك بعد اغتيال السادات. وكان الرئيس أزاح الصحافي من “الأهرام” ورفض الأخير عرضاً لتولي منصب مستشار صحافي للرئاسة.
واتسمت علاقة مبارك بهيكل بالفتور الشديد، فلم يكن هيكل قط من المقربين من الرئيس الذي همشه مفضلاً الاستعانة بوجوه جديدة في الدائرة المقربة منه.
وفي حوار مع صحيفة “الانديبندنت” عام 2007، وجه هيكل انتقادات إلى مبارك. وقال: “دعنا نواجه الأمر، الرجل لم يعتد أبداً السياسة”. وكان يعارض سعي مبارك إلى توريث الحكم لنجله جمال. وبعد سقوط نظامه في شباط 2011، أصدر كتاباً بعنوان “مبارك وزمانه من المنصة الى الميدان”، ضمنه انتقادات لشخصية الرئيس سابقاً ولسني عهده.
ورحب هيكل ببروز السيسي، ودعاه في كانون الأول 2015 إلى عقد حوار وطني لحل أزمات البلاد الاقتصادية والسياسية والأمنية.
وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أخيراً، اعتبر أن الكثير من المصريين “راضون بما يحدث لأن البدائل أسوأ، وجربنا البديل عنها ورأينا المصائب التي يمكن ان تحصل”، في إشارة إلى جماعة “الإخوان المسلمين”. ودعا إلى “حوار بين كل قوى الوطن بممثلين حقيقيين عن الشعب”.
وإلى صداقته لعبدالناصر، كان هيكل مقرباً من العاهل الأردني الراحل الملك عبدالله بن الحسين، والرئيس الأول للجزائر بعد استقلالها عام 1962 أحمد بن بلة وشاه إيران محمد رضا بهلوي وآية الله الخميني الذي أطاحه. كما ربطته صداقة بالرئيس الفرنسي سابقاً فرنسوا ميتران.
وفي السنوات الأخيرة أطل على الجمهور العربي الواسع من خلال برنامج بثته قناة “الجزيرة” الفضائية القطرية منذ عام 2007 بعنوان “مع هيكل”، وقدم تحليلات سياسية أسبوعياً على فضائية “سي بي سي” المصرية الخاصة.
وإذا كان في نظر كثيرين كاتباً ومؤرخاً واكب قضايا مصر والمنطقة مدى عقود، فإنه لم ينج من الاتهامات له بالتودد للحكام وتبرير بعض سياسات عبدالناصر القمعية إلى حد وصفه بأنه “الصندوق الأسود” لعهده. فكان موضوع قصيدة ساخرة لاذعة حملت عنوان عموده الصحافي “بصراحة” للشاعر أحمد فؤاد نجم أداها الملحن والمغني المصري الشيخ إمام عيسى، اتهمته بأنه يمالئ الحاكم وينمق كلامه بعيداً من الوقع الحقيقي لمصر. وفي كل الأحوال، كان ذلك العمود الصحافي يحظى بمتابعة كبيرة في بلدان عربية عدة.
ومع أنه لم يبق من الناصرية و”العربية الاشتراكية” الكثير في مصر اليوم، فإن هيكل بقي أحد معالم السياسة الناصرية في مصر والدول العربية ويحظى باحترام كبير نظراً إلى شبكة علاقاته العربية والدولية.
ووصفه الديبلوماسي مصطفى الفقي بأنه “ذاكرة الأمة”.
زوجته منذ عام 1955 هي هدايت تيمور، وأنجبا ثلاثة أبناء هم علي، وهو طبيب، ورجلا الأعمال أحمد وحسن.
النهار