“من مغارة الميلاد، يطلب منّا الطّفل أن نكون صوت الذين لا صوت لهم: صوت الأبرياء الذين ماتوا بسبب نقص الماء والخبز، وصوت الذين لا يستطيعون أن يجدوا عملًا أو خسروه، وصوت الذين يُجبَرون على الهرب من وطنهم بحثًا عن مستقبلٍ أفضل، ويخاطرون بحياتهم في رحلات مرهقة وتحت رحمة تجّار عديمي الضّمير” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في رسالته إلى مدينة روما والعالم لمناسبة عيد الميلاد
في يوم عيد الميلاد وجه البابا فرنسيس، كما جرت العادة، رسالته التقليدية إلى مدينة روما والعالم، قال فيها أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، ميلاد مجيد! إن أنظار وقلوب المسيحيين في جميع أنحاء العالم تتجه نحو بيت لحم؛ هناك، حيث يسود الألم والصمت في هذه الأيام، تردد صدى الإعلان المنتظر منذ قرون: “ولد لكم اليوم مخلص، وهو الـمسيح الرب”. إنها كلمات الملاك في سماء بيت لحم، وهي موجهة إلينا أيضًا. إن الثقة والرجاء يملآننا إذ نعرف أن الرب قد ولد من أجلنا؛ وأن كلمة الآب الأزلي، الإله اللامتناهي، قد جعل مسكنه بيننا. لقد صار جسدًا، وجاء “ليسكن بيننا”: هذا هو الخبر الذي يغيّر مجرى التاريخ!
تابع البابا فرنسيس يقول إن إعلان بيت لحم هو إعلان “فرح عظيم”. أي فرح؟ ليس سعادة العالم العابرة، وليس بهجة المرح، وإنما فرح “عظيم” لأنه يجعلنا “عظماء”. اليوم في الواقع، نعانق نحن البشر، مع محدودياتنا، يقين رجاء غير مسبوق، رجاء أننا قد ولدنا من أجل السماء. نعم، لقد جاء أخونا يسوع لكي يجعل أباه أبًا لنا: طفل هشّ، يكشف لنا حنان الله؛ وأكثر من ذلك بكثير: هو، ابن الآب الوحيد، يمنحنا القدرة “لكي نصبح أبناء الله”. هذا هو الفرح الذي يعزّي القلب، ويجدد الرجاء، ويعطي السلام: إنه فرح الروح القدس، فرح أن نكون أبناء محبوبين.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الإخوة والأخوات، اليوم في بيت لحم، بين ظلمات الأرض، أضاءت هذه الشعلة التي لا تنطفئ، اليوم ينتصر على ظلمة العالم، نور الله “الذي ينير كل إنسان”: لنبتهج بهذه النعمة! افرح أنت، يا من فقدت الثقة واليقين، لأنك لستَ وحدكَ، ولستِ وحدكِ: لقد ولد المسيح من أجلك! افرح أنت، يا من فقدت الرجاء، لأن الله يمدُّ لك يده: هو لا يوجه إليك أصابع الاتهام، بل يقدم لك يده كطفل صغير لكي يحررك من الخوف، ويريحك من التعب ويظهر لك أنك في عينيه أهمّ من أي شيء آخر. افرح أنت، يا من لا تجد السلام في قلبك، لأنه من أجلك تحققت نبوءة أشعيا القديمة: “قد ولد لنا ولد وأعطي لنا ابن؛ ودعي أسمه رئيس السلام”؛ ومعه “لن يكون للسلام إنقضاء”. في الكتاب المقدّس، يعارض رئيس السّلام “سَيِّدُ هذا العالَمِ” الذي يزرع الموت وينقض عمل الله “المُحِبِّ لِلحَياة”. نراه يعمل في بيت لحم، عندما وبعد ولادة المخلّص، وقعت حادثة مذبحة الأطفال الأبرياء. ما أكثر مذابح الأبرياء في العالم: في الحشا الوالدي، على مسارات اليائسين الذين يبحثون عن الرجاء، في حياة العديد من الأطفال الذين تدمّر الحرب طفولتهم. إنّهم يسوع الصّغير اليوم.
تابع الحبر الأعظم يقول لذلك، أن نقول “نعم” لرئيس السّلام، يعني أن نقول “لا” للحرب، ولكلّ حرب، ولمنطق الحرب نفسه، رحلة بدون هدف، وهزيمة بدون منتصرين، وجنون بدون أعذار. ولكن لكي نقول “لا” للحرب، علينا أن نقول “لا” للأسلحة. لأنّه إذا وُجدت أسلحة بين يديَّ الإنسان الذي قلبه مُضطرب وجريح، فسيستخدمها عاجلًا أم آجلًا. وكيف يمكننا أن نتكلّم عن السّلام إذا زاد إنتاج الأسلحة وبيعها والاتجار بها؟ اليوم، كما في زمن هيرودس، تتحرّك مؤامرات الشّرّ المعارضة للنّور الإلهي في ظلِّ الرّياء وفي الخِفيَة: كم من المجازر المسلّحة تتمُّ في صَمتٍ مُطبق، ودون علم الكثيرين! إنَّ النّاس الذين لا يريدون الأسلحة بل الخبز، ويتعبون لكي يسيروا قدمًا ويطلبون السلام، لا يعرفون كم من الأموال العامّة تخصّص للأسلحة. مع ذلك، يجب أن يعرفوا! يجب أن يتمَّ الحديث عن ذلك وأن يكتب عنه لكي تُعرف المصالح والأرباح التي تحرّك خيوط الحروب.
أضاف البابا فرنسيس يقول كتب أشعيا الذي تنبّأ عن رئيس السّلام، عن يومٍ “لا تَرفَعُ فيه أُمَّةٌ على أُمَّةٍ سَيفًا”، وعن يومٍ “لا يَتَعَلَّم فيه البشر الحَربَ بَعدَ ذلك”، بل “يَضرِبونَ سُيوفَهم سِكَكًا ورِماحَهم مَناجِل”. لنعمل، بمعونة الله، لكي يقترب ذلك اليوم! ليقترب ذلك اليوم في إسرائيل وفلسطين، حيث تهزُّ الحرب حياة تلك الشّعوب. أعانقهم جميعًا، ولا سيّما الجماعات المسيحيّة في غزّة وفي الأرض المقدّسة بأسرها. أحمل في قلبي الألم من أجل ضحايا الهجوم الآثم الذي وقع في ٧ تشرين الأوّل أكتوبر، وأجدّد ندائي المُلِحّ للإفراج عن الرّهائن الذين ما زالوا محتجزين. أطلب أن تتوقّف العمليّات العسكريّة، مع نتائجها المرعبة التي تتسبب بسقوط ضحايا مدنيّين أبرياء، وأن تتمّ معالجة الوضع الإنسانيّ اليائس من خلال السّماح بوصول المساعدات. ليتوقّف تأجيج العنف والكراهية، وليبدأ حلّ القضيّة الفلسطينيّة، من خلال حوارٍ صادقٍ ومستمرّ بين الطّرفين، تعضده إرادة سياسيّة قويّة ودعم المجتمع الدّوليّ.
تابع الأب الأقدس يقول يتوجّه فكري من ثمَّ إلى شعب سورية المعذّبة، وكذلك إلى شعب اليمن الذي ما زال يتألّم. أفكّر في الشّعب اللبناني العزيز، وأصلّي لكي يجد قريبًا الاستقرار السّياسيّ والاجتماعيّ. وإذ أُحدق النظر في الطّفل يسوع أطلب السّلام لأوكرانيا. لنجدّد قربنا الرّوحيّ والإنسانيّ من هذا الشّعب المعذّب، لكي ومن خلال دعم كل فرد منا يشعر بمحبة الله الملموسة.
أضاف الحبر الأعظم يقول ليقترب يوم السّلام النّهائيّ بين أرمينيا وأذربيجان. وليعززه استمرار المبادرات الإنسانيّة، وعودة النّازحين إلى بيوتهم بصورة قانونيّة وآمنة، والاحترام المتبادل للتّقاليد الدّينيّة وأماكن العبادة لكلّ جماعة. لا ننسَينَّ التّوتّرات والنزاعات التي تهزّ منطقة السّاحل والقرن الأفريقيّ والسّودان، وكذلك الكاميرون وجمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة وجنوب السّودان. ليقترب اليوم الذي تتوثَّق فيه الرّوابط الأخويّة في شبه الجزيرة الكوريّة، بفتح مسارات حوار ومصالحة يمكنها أن تخلق الظّروف لسلام دائم. ليُلهم ابن الله، الذي صار طفلًا متواضعًا، السّلطات السّياسيّة وجميع الأشخاص ذوي الإرادة الصّالحة في القارّة الأمريكيّة، لكي يجدوا الحلول المناسبة لتخطّي الخلافات الاجتماعيّة والسّياسيّة، ويكافحوا ضدّ أشكال الفقر التي تسيء إلى كرامة الأشخاص، ويزيلوا أوجه عدم المساواة ويواجهوا ظاهرة الهجرة المؤلمة. من مغارة الميلاد، يطلب منّا الطّفل أن نكون صوت الذين لا صوت لهم: صوت الأبرياء الذين ماتوا بسبب نقص الماء والخبز، وصوت الذين لا يستطيعون أن يجدوا عملًا أو خسروه، وصوت الذين يُجبَرون على الهرب من وطنهم بحثًا عن مستقبلٍ أفضل، ويخاطرون بحياتهم في رحلات مرهقة وتحت رحمة تجّار عديمي الضّمير.
وخلص البابا فرنسيس إلى القول أيّها الإخوة والأخوات، يقترب زمن النّعمة والرّجاء، زمن اليوبيل، الذي سيبدأ بعد سنة. لتكن فترة التّحضيرات هذه فرصة لارتداد القلوب، لكي تقول “لا” للحرب و”نعم” للسّلام، ولكي تُجيب بفرح على دعوة الرب الذي يدعونا، كما تنبّأ أشعيا أيضًا، لكي “نُبَشِّرَ الفُقَراء، ونَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب، ونُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنِ المَسبِيِّين، وبِتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين”. هذه الكلمات قد تحقّقت في يسوع، الذي وُلِدَ اليوم في بيت لحم. لنستقبله، ولنفتح قلوبنا له، هو المخلّص، ورئيس السّلام!