تحت عنوان “هَذَا المِسكِينُ صَرَخَ، وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ”، صدرت رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي للفقراء ٢٠١٨ والذي سيحتفل به في الثامن عشر من تشرين الأول أكتوبر من هذا العام. كتب البابا “هَذَا المِسكِينُ صَرَخَ، وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ” (مز ٣٤، ٧). تصبح كلمات صاحب المزمور كلماتنا إذ قد دعينا نحن أيضًا للقاء مختلف أنواع الألم والتهميش التي يعيش فيها العديد من الإخوة والأخوات الذين اعتدنا أن نشير إليهم بكلمة “فقراء”. إن الذي يكتب هذه الكلمات ليس غريبًا عن هذه الحالة بل يختبر الفقر بشكل مباشر ويحوله إلى نشيد تسبيح وشكر للرب.
تابع الأب الأقدس يقول يقال لنا أولاً أنّ الرب يصغي إلى الفقراء الذين يصرخون إليه وهو صالح مع الذين يبحثون عن ملجأ فيه إذ يكسر قلوبهم الحزن والوحدة والإقصاء. هو يصغي إلى الذين يُنتهكون في كرامتهم، ومع ذلك، يملكون القوّة لكي يرفعوا نظرهم نحو العلى لكي ينالوا النور والعزاء. يصغي إلى الذين يُضطهدون باسم العدالة الزائفة ومن قبل سياسات لا تستحق هذا الإسم، ومع ذلك يعرفون أن الله هو مخلّصهم.
أضاف الحبر الأعظم يقول يصف المزمور بثلاثة أفعال موقف الفقير وعلاقته مع الله. أولاً “الصراخ”، إنّ وضع الفقر لا يُعبّر عنه بكلمة واحدة ولكنّه صرخة تخترق السماء لتصل إلى الله. يمكننا أن نسأل أنفسنا: كيف يمكن لهذه الصرخة التي تصل إلى الله ألا تصل إلى آذاننا وتتركنا غير مبالين؟ في يوم كهذا نحن مدعوون للقيام بفحص ضمير لنفهم إن كنا قادرين فعلاً على الإصغاء للفقراء. إنَّ صمت الإصغاء هو ما نحتاج إليه لكي نتعرّف على صوتهم.
تابع البابا فرنسيس يقول الفعل الثاني هو “الإجابة”، إن الرب، يقول صاحب المزمور، لا يصغي فقط إلى صرخة الفقير بل يجيب. وجوابه كما يؤكِّد تاريخ الخلاص بأسره، هو مشاركة مفعمة بالحب لحالة الفقير. هكذا كان الأمر عندما عبّر إبراهيم لله عن رغبته في الحصول على ذريّة بالرغم من أنّه وزوجته سارة كانا طاعنين في السن ولم يكن لديهما أبناء. وهذا ما حصل أيضًا عندما نال موسى من خلال نار في عليّقة كانت تشتعل بدون أن تحترق وحي الاسم الإلهي ومهمّة إخراج الشعب من مصر. إن جواب الله للفقير هو على الدوام تدخّل خلاص لشفاء جراح النفس والجسد ويعيد العدالة ويساعد على استعادة الحياة بكرامة. إنَّ جواب الله هو أيضًا نداء لكي يتمكّن من يؤمن به أن يتصرّف مثله. وبالتالي يريد اليوم العالمي للفقراء أن يكون جوابًا صغيرًا يتوجّه من الكنيسة بأسرها، المنتشرة في العالم، إلى الفقراء من كلِّ نوع ومن كلِّ أرض لكيلا يعتقدوا أن صرختهم قد ذهبت سدى.
أضاف الأب الأقدس يقول الفعل الثالث هو “التحرير”. إنّ الفقير في الكتاب المقدّس يعيش مع اليقين بأنّ الله يتدخّل لصالحه ليعيد إليه كرامته. لا أحد يبحث عن الفقر، بل تخلقه الأنانيّة والعجرفة والجشع والظلم. إن العمل الذي يحرّر الرب من خلاله هو فعل خلاص للذين قد أظهروا له حزنهم وبؤسهم. إن قوّة الله تكسر سجن الفقر والعديد من المزامير تخبر عن تاريخ الخلاص هذا الذي يجد جوابًا في حياة الفقير الشخصيّة: “لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يُرْذِلْ مَسكَنَةَ المِسكِينِ، وَلَم يَحجُب وَجهَهُ عَنهُ، بَلْ عِندَ صُرَاخِهِ إِلَيهِ استَمَعَ” (مز ٢٢، ٢٤). وبالتالي فالتأمّل في وجه الله هو علامة لصداقته وقربه وخلاصه. ولذلك يأخذ خلاص الله شكل يد ممدودة نحو الفقير تقدّم الاستقبال وتحمي وتسمح له بالشعور بالصداقة التي يحتاج إليها، ومن هذا القرب الملموس بالتحديد تنطلق عمليّة التحرير الحقيقيّة.
تابع الحبر الأعظم يقول أتأثر لمعرفتي أن العديد من الفقراء قد تماثلوا ببرطيماوس الذي يحدّثنا عنه الإنجيلي مرقس. كان برطيماوس الأعمى جالِساً على جانِبِ الطَّريق. فلمَّا سَمِعَ بِأَنَّ يسوع عابر من هناك، أَخذَ يَصيح: “رُحْماكَ، يا ابنَ داود” لكي يرأف به، فَانَتهَرَه أُناسٌ كثيرونَ لِيَسكُت، فَصاحَ أَشَدَّ الصِّياح. وإذ سمع يسوع صراخه قالَ له: “ماذا تُريدُ أَن أَصنَعَ لكَ؟”، قال له الأَعمى: “رابُوني، أَن أُبصِر”. إن هذا المقطع من الإنجيل يجعل وعد المزمور مرئيًّا. برطيماوس هو فقير محروم من القدرات الأساسيّة البصر والعمل. كم من المسارات تقود اليوم أيضًا إلى أشكال من الفقر! وكم من الفقراء على مثال برطيماوس يجلسون اليوم على جانب الطريق ويبحثون عن معنى لحالتهم! كم من الأشخاص يتساءلون حول السبب الذي جعلهم يصلون إلى عمق هذه الهاوية وحول الطريقة للخروج منها منتظرين من يقترب منهم ويقول لهم: “تَشَدَّدْ وقُم فإِنَّه يَدْعوك!”.
أضاف البابا فرنسيس يقول الفقراء هم أول من يشعر بحضور الله ويقدّمون الشهادة لقربه في حياتهم. إنَّ الله يبقى أمينًا، وحتى في ظلام الليل لا يغيب أبدًا دفء محبّته وتعزيته. مع ذلك ولتخطّي وضع الفقر الفادح من الأهميّة بمكان أن يشعر الفقراء بحضور إخوة وأخوات يقلقون عليهم وإذ يفتحون لهم باب القلب والحياة يجعلونهم يشعرون بأنّهم أصدقاء وأقارب. في هذا اليوم العالمي نحن مدعوّين لنجسِّد كلمات المزمور: “يَأكُلُ الوُدَعَاءُ وَيَشبَعُونَ” (مز ٢٢، ٢٧).. نعرف أنّه وبعد رتبة التضحية في هيكل أورشليم كانت تتأمُّ مأدبة كبيرة. وهذه الخبرة العام الماضي قد أغنت في العديد من الأبرشيات الاحتفال باليوم العالمي الأول للفقراء، إذ وجد كثيرون دفء بيت وفرح وجبة عيد وتضامن الذين أرادوا أن يتقاسموا المائدة في أسلوب بسيط وأخوي. أريد أيضًا أن يتمَّ الاحتفال بهذا اليوم في هذه السنة وفي المستقبل تحت شعار الفرح من أجل استرجاع القدرة على الإقامة معًا.
تابع الأب الأقدس يقول كثيرة هي المبادرات التي تقوم بها الجماعة المسيحيّة يوميًّا لكي تقدّم علامة قرب وتعزية للعديد من أشكال الفقر الموجودة أمامنا؛ وغالبًا ما تتمكّن المساهمة مع وقائع أخرى يحرّكها التضامن البشري من تقديم مساعدة لا يمكننا أن نحققها وحدنا. فأمام الفقراء، لا يتعلّق الأمر بمن يحقُّ له بأولويّة التدخل وإنما يمكننا أن نعترف بتواضع أنَّ الروح القدس هو الذي يولِّد تصرفات تشكّل علامة لجواب الله وقربه. وبالتالي عندما نجد الأسلوب الملائم لنقترب من الفقراء لنعلم أن الأولويّة هي لله الذي فتح عيوننا وقلوبنا على الإرتداد؛ فالفقراء لا يحتاجون لمظاهر وتباهي وإنما لحب يعرف كيف يختبئ وينسى الخير الذي قدّمه، لأنَّ الرواد الحقيقيّين في هذا الإطار هم الرب والفقراء؛ وبالتالي فالذي يضع نفسه في الخدمة هو أداة بين يدي الله لكي يُظهر حضوره وخلاصه.
أضاف الحبر الأعظم يقول إنَّ صرخة الفقير هي أيضًا صرخة رجاء يُظهر من خلالها اليقين بأنّه قد تحرّر. رجاء يقوم على محبّة الله الذي لا يترك أبدًا من يتَّكل عليه. كتبت القديسة تريزيا الأفيليّة في كتابها “طريق الكمال”: الفقر هو خير يحمل في داخله جميع خيور العالم ويعطينا سلطة كبيرة ويجعلنا أسيادًا لجميع الخيور الأرضيّة منذ اللحظة التي يجعلنا نحتقرها”. وبالتالي بقدر ما نصبح قادرين على تمييز الخير الحقيقي نصبح أغنياء أمام الله وحكماء أمام أنفسنا والآخرين؛ وهكذا فقط وبقدر ما نتمكّن من أن نعطي المعنى الحقيقي والصحيح للغنى ننمو في بشريّتنا ويصبح بإمكاننا عيش المشاركة والمقاسمة.
وختم البابا فرنسيس رسالته بمناسبة اليوم العالمي للفقراء بالقول أدعو إخوتي الأساقفة والكهنة ولاسيما الشمامسة الذين نالوا وضع الأيدي من أجل خدمة الفقراء، مع المكرّسين والعلمانيين الذين يجعلون جواب الكنيسة لصرخة الفقراء ملموسًا في الرعايا والمنظمات والحركات، لكي يعيشوا هذا اليوم العالمي كلحظة مميّزة لبشارة جديدة. إن الفقراء يبشِّروننا إذ يساعدوننا لكي نكتشف جمال الإنجيل يوميًّا، فلا نسمحنَّ إذًا بأن تذهب هذه الفرصة سدى، ولنشعر جميعًا، في هذا اليوم، أننا مدينون لهم، لأننا عندما نمدُّ أيدينا لبعضنا البعض يتحقق اللقاء الخلاصي الذي يعضد الإيمان ويجعل المحبّة فاعلة ويتيح للرجاء أن يتابع أكيدًا في المسيرة نحو الرب الذي يأتي.
إذاعة الفاتيكان