“حياتنا ليست وليدة الصدفة، بل عطيّة كوننا أبناء محبوبين من الربّ” هذا ما كتبه قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة اليوم العالمي السادس والخمسين للصلاة من أجل الدعوات ٢٠١۹
تحت عنوان “شجاعة المخاطرة من أجل وعد الله” صدرت ظهر اليوم السبت رسالة قداسة البابا فرنسيس لليوم العالمي السادس والخمسين للصلاة من أجل الدعوات والذي سيُحتفل به في الثاني عشر من أيار مايو عام ٢٠١۹. كتب البابا فرنسيس في رسالته بعد أن عشنا في شهر تشرين الأوّل الماضي الخبرة الحيّة والخصبة للسينودس المخصص للشباب، احتفلنا مؤخّرًا باليوم العالمي الرابع والثلاثين للشباب في باناما. حدثان عظيمان، سمحا للكنيسة أن تصغي إلى صوت الروح القدس، وإلى حياة الشباب أيضًا، وأسئلتهم، وإلى التعب الذي يرهقهم، والآمال التي تسكنهم.
وإذ أستعيد ما قد تشاركته مع الشباب في باناما أريد في هذا اليوم العالمي للصلاة من أجل الدعوات أن أتأمّل حول كيف تجعلنا دعوة الربّ حاملي وعد، وفي الوقت عينه، تطلب منّا شجاعة المخاطرة معه ومن أجله. أريد أن أتوقّف بإيجاز عند هذين الجانبين – الوعد والمخاطرة – متأمِّلاً معكم في مشهد إنجيل دعوة التلاميذ الأوائل قرب بحيرة الجليل (مر 1، 16- 20).
تابع الأب الأقدس يقول يقوم أخوان – سمعان وأندراوس – ومعهما أخوين آخرين – يعقوب ويوحنا – بعملهم اليومي كصيّادي سمك. لقد تعلّموا في هذا العمل الشاقّ، قوانين الطبيعة، وكان عليهم أحيانًا أن يتحدّوها عندما كانت الرياح ضدّهم وكانت الأمواج تهزّ القوارب. في بعض الأيام كان الصيد الكثيف يكافئ العمل الشاقّ، ولكن في أحيان أخرى، لم يكن عمل ليلة كاملة كافيًا ليملأ الشباك وكانوا يعودون إلى الشاطئ خائبين. هذه هي الحالات العاديّة في الحياة، والتي يقيس فيها كلّ فرد منّا ذاته مع الرغبات التي يحملها في قلبه، ويلتزم في نشاطات يأمل أن تكون مثمرة، ويمضي في “بحر” العديد من الاحتمالات بحثًا عن المسار الصحيح الذي يمكنه أن يروي عطشه إلى السعادة. فيتنعّم أحيانًا بصيد جيّد، ولكن وفي أحيان أخرى، عليه أن يتسلّح بالشجاعة ليسيطر على قارب تقذف به الأمواج، أو ليواجه الإحباط إزاء الشباك الفارغة.
أضاف الحبر الأعظم يقول كما هو الحال في قصّة كلِّ دعوة، هناك لقاء في هذه الحالة أيضًا. يسوع يسير ويرى هؤلاء الصيّادين ويقترب منهم… هذا ما حدث أيضًا مع الشخص الذي اخترناه لنتقاسم معه الحياة في الزواج، أو عندما شعرنا بسحر الحياة المكرّسة: لقد عشنا مفاجأة اللقاء، وفي تلك اللحظة، شعرنا بوعد فرح قادر على إشباع حياتنا. هكذا، وفي ذلك اليوم، بالقرب من بحيرة الجليل، ذهب يسوع للقاء هؤلاء الصيّادين، وكسر “شلل الحياة الاعتياديّة”. وأعطاهم وعدًا على الفور: “سأَجعَلْكما صَيّادي بَشَر” (مر 1، 17). إن دعوة الربّ إذاً ليست تدخّلًا من الله في حرّيتنا؛ ليست “قفصًا” أو عبئًا يوضع علينا. بل على العكس، إنها مبادرة الله المحبّة التي يأتي بها للقائنا ويدعونا للدخول في مشروع كبير، يريد أن يشاركنا به، مقدِّمًا لنا أفقَ بحرٍ أوسع وصيدًا وافرًا.
إن رغبة الله، في الواقع، تابع البابا فرنسيس يقول، هي ألّا تصبح حياتنا سجينة الأمور البديهية، وألّا يجرّها الكسل إلى عادات يوميّة ولا تبقى خاملة أمام تلك الخيارات التي يمكنها أن تعطيّها معنى. إن الرب لا يريدنا أن نستسلم لعيش عيشة الكفاف معتبرين أنَّ ما من شيء يستحقّ أن نلتزم في سبيله بشغف، وأن نخمد اهتمامنا الداخلي في بحثنا عن مسارات جديدة لمسيرتنا. وإن كان أحيانًا يجعلنا نختبر “صيدًا عجيبًا”، فذلك لأنه يريدنا أن نكتشف أن كلّ فرد منّا مدعوّ -بأساليب مختلفة – إلى شيء عظيم، وأنه لا يجب على الحياة أن تبقى عالقة في شباك السخافة وما يخدرّ القلب. إنَّ الدعوة باختصار، هي دعوة إلى عدم التوقّف على الشاطئ ممسكين الشباك في أيدينا، بل إلى اتّباع يسوع على الدرب الذي أعدّه لنا، من أجل سعادتنا ومن أجل خير الذين هم بقربنا.
أضاف الأب الأقدس يقول إن معانقة هذا الوعد تتطلّب، بالطبع، شجاعة المخاطرة بالقيام بخيار ما. فالتلاميذ الأوائل، إذ شعروا بأنه يدعوهم للمشاركة في حلم أكبر، “تركوا شباكهم على الفور وتبعوه” (را. مر 1، 18). هذا يعني أنه لكي نقبل دعوة الربّ، علينا أن نلتزم بكامل كياننا وان نخاطر في مواجهة تحدٍّ جديد؛ علينا أن نترك كلّ ما يريد أن يبقينا مربوطين بقاربنا الصغير، ويمنعنا من القيام بخيار نهائي؛ ولذلك يُطلَب منّا أن نتحلّى بتلك الشجاعة التي تحثّنا بقوّة على اكتشاف مشروع الله لحياتنا. عندما نوضع أمام بحر الدعوة الواسع، لا يمكننا مواصلة إصلاح شباكنا، على متن القارب الذي يمنحنا الأمان، بل علينا أن نثق بوعد الربّ.
تابع الحبر الأعظم يقول أفكّر أولاً في الدعوة إلى الحياة المسيحية، التي ننالها جميعًا مع المعموديّة والتي تذكّرنا بأن حياتنا ليست وليدة الصدفة، بل عطيّة كوننا أبناء محبوبين من الربّ، يجتمعون في العائلة الكبيرة للكنيسة. لأنّه في الجماعة الكنسيّة تولد الحياة المسيحية وتنمو، لا سيما بفضل الليتورجية التي تُدخلنا في الاصغاء إلى كلمة الله وفي نعمة الأسرار المقدّسة. ففيها، ومنذ سنّ مبكرة، نتعلّم فنّ الصلاة والمشاركة الأخوية. الكنيسة هي أمنا لأنها تلدنا إلى حياة جديدة وتقودنا إلى المسيح. لذلك، علينا أن نحبّها أيضًا عندما نرى على وجهها تجاعيد الهشاشة والخطيئة، ويجب أن نساهم في جعلها أكثر جمالًا وإشراقًا، لكي تكون شهادة لمحبّة الله في العالم.
من ثمَّ أضاف البابا يقول تجد الحياة المسيحية تعبيرها في تلك الخيارات التي، فيما تعطي توجيهًا دقيقًا لمسيرتنا، تساهم أيضًا في نموّ ملكوت الله في المجتمع. أفكّر في خيار الزواج في المسيح وتكوين أسرة، كذلك في الدعوات الأخرى المرتبطة بعالم العمل والمهن، والالتزام في إطار أعمال المحبة والتضامن، وفي المسؤوليات الاجتماعية والسياسية، وما إلى ذلك. إنها دعوات تجعلنا “حاملي وعد” بالخير والمحبّة والعدالة، ليس لأنفسنا وحسب، وإنما للأطر الاجتماعية والثقافية التي نعيش فيها، والتي تحتاج إلى مسيحيّين شجعان وشهود حقيقيّين لملكوت الله.
تابع الأب الأقدس يقول من الممكن خلال اللقاء مع الرب أن يشعر المرء بسحر دعوة إلى الحياة المكرّسة أو إلى الكهنوت. إنّه اكتشاف يثير الحماس ويخيف في الوقت عينه، إذ نشعر بأننا مدعوّون لأن نصبح “صيّادي بشر” في قارب الكنيسة من خلال تقدمة الذات بشكل كامل والالتزام في خدمة أمينة للإنجيل والإخوة. يتضمن هذا الخيار مخاطرة ترك كلّ شيء لاتّباع الربّ والتكرُّس الكامل له، لكي نصبح معاونيه في عمله. يمكن للعديد من المقاومات الداخلية أن تعيق قرارًا من هذا النوع، كذلك يمكننا في بعض الأطر المعلمنة التي يبدو أنه لا يوجد فيها مكانًا لله والإنجيل، أن نفقد الشجاعة ونقع في “تعب الرجاء”.
ولكن مع ذلك، أضاف البابا فرنسيس يقول ما من فرح أعظم من المخاطرة بالحياة من أجل الربّ! وأريد أن أقول لكم أنتم، أيها الشباب بوجه خاص: لا تصمّوا آذانكم عن سماع دعوة الربّ! إن دعاكم لهذه الدرب، لا “ترفعوا المجاديف”، بل ثقوا به، ولا تسمحوا بأن يسيطر عليكم الخوف الذي يشلّنا إزاء القمم العالية التي يقترحها الربّ علينا. تذكّروا دائمًا أن الربّ يَعِد، الذين يتركون الشباك والقارب ليتبعوه، بفرحِ حياةٍ جديدة، يغمر القلب ويحيي المسيرة. أيّها الأعزّاء، ليس من السهل دومًا أن نميِّز دعوتنا الشخصية ونوجّه حياتنا بالأسلوب الصحيح. ولهذا السبب، هناك حاجة إلى التزام متجدّد من قِبَلِ الكنيسة بأسرها – كهنة، ورهبان، ومسؤولون رعويون، ومعلّمون- لكي تُقدَّم، للشباب بنوع خاص، فرص إصغاء وتمييز. هناك حاجة إلى عمل راعوي للشباب وللدعوات يساعد على اكتشاف مشروع الله، لاسيما من خلال الصلاة، والتأمّل في كلمة الله، والسجود للقربان المقدّس والمرافقة الروحيّة.
تابع الأب الأقدس يقول وكما ظهر لنا مرارًا خلال اليوم العالمي للشباب في باناما، علينا أن ننظر إلى مريم. ففي قصّة هذه الشابة كانت الدعوة أيضًا وعدًا ومخاطرة في الوقت عينه. لم تكن رسالتها سهلة، ولكنّها لم تسمح للخوف بأن يسيطر عليها. والـ “نعم” التي قالتها كانت “نعم” من يريد أن يلتزم ويخاطر، ويريد أن يراهن بكلِّ شيء، بدون أيّة ضمانات غير اليقين بمعرفة أنّها حاملة وعد. وأتوجّه بالسؤال لكلّ فرد منكم: هل تشعرون أنكم حاملي وعد؟ أيّ وعد أحمل في قلبي، لأسير قدمًا؟ لقد نالت مريم بلا شكّ رسالة صعبة، لكن الصعوبات لم تكن سببًا لكي تقول “لا”. كانت ستواجه تعقيدات بالتأكيد، ولكنّها لن تكون التعقيدات عينها التي نواجهها عندما يشلّنا الجُبنُ لأن لا شيء واضح أو مضمون بالنسبة لنا.
وختم البابا فرنسيس رسالته بالقول لنتحّد بالصلاة في هذا اليوم العالمي للدعوات، طالبين من الربّ أن يجعلنا نكتشف مشروع محبّته في حياتنا، وأن يعطينا الشجاعة لنخاطر على الطريق الذي يريده لنا.
اخبار الفاتيكان