صدرت رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي الحادي والخمسين لوسائل التواصل الاجتماعي حول موضوع “إيصال الرجاء والثقة في زماننا”. كتب البابا:
إن استخدام وسائل التواصل، بفضل التطوّر التكنولوجي، أصبح سهلا لدرجة أنه يتيح أمام العديد من المستخدمين إمكانية التقاسم الفوري للأنباء ونشرها على نطاق واسع للغاية. وهذه الأنباء قد تكون سارة أو سيّئة، صحيحة أو كاذبة. وكان آباؤنا في الإيمان قد تحدّثوا منذ القدم عن الذهن البشري مشبّهين إياه بحجر الطاحون الذي تحرّكه المياه ولا يمكن إيقافه. لكن القيّم على الطاحون بإمكانه الاختيار بين طحن القمح أو الزؤان. الذهن البشريّ يعمل باستمرار ولا يستطيع التوقّف عن “طحن” ما يتلقّاه، لكن يتعيّن علينا نحن اختيار المادة التي نقدّمها (را. كاسّيانو الروماني، رسالة إلى ليونسيو إيغومينو).
أودّ أن تتمكّن هذه الرسالة من بلوغ وتشجيع الأشخاص الذين “يطحنون” يوميّا الكثير من المعلومات، أكان في مجال العمل أم في العلاقات الشخصيّة، ليقدّموا خبزا ذكيّا وطيّبا للمتغذّين من ثمرة تواصلهم. أودّ أن أحثّ الجميع على تواصلٍ بنّاء يقوم، من خلال نبذ الأحكام المسبقة تجاه الآخرين، بتعزيز ثقافة اللقاء التي نتعلّم بواسطتها النظر إلى الواقع بثقة فطِنة.
أعتقد أن ثمّة حاجة لكسر حلقة الغمّ المفرغة واحتواء دوّامة الخوف، التي هي ثمرة الاعتياد على صبّ الاهتمام على “الأنباء السيّئة” (الحروب، الإرهاب، الفضائح وكلّ أشكال الفشل البشريّ). بالطبع ليس المراد هنا الترويج للتضليل الذي يتمّ فيه تجاهل مأساة الألم، أو الانزلاق نحو تفاؤل زائف لا يتأثّر بفضيحة الشرّ. بل على العكس أودّ أن نسعى جميعًا إلى تخطّي شعور الاستياء والاستسلام الذي غالبا ما يستحوذ علينا ويرمينا وسط اللامبالاة مولّدًا الخوف أو الانطباع باستحالة وضع حدّ للشرّ. عدا ذلك، ففي منظومة من التواصل يطغى عليها المنطق القائل إن الخبر السار لا يثير الاهتمام وبالتالي ليس خبرا، وحيث يتحوّل بسهولة لغزُ الشرّ ومأساة الألم إلى استعراض جماهيريّ، يمكن التعرّض لتخدير الضمير أو الانزلاق نحو اليأس.
أودّ أن أقدّم إسهامي في البحث عن نمط مفتوح وخلاّق للتواصل، لا يترك للشرّ حصّة الأسد، بل يسعى إلى إبراز الحلول الممكنة، ملهما مقاربةً بنّاءة ومسؤولة لدى الأشخاص الذين يُنقل إليهم الخبر. أرغب في دعوة الجميع لأن يقدّموا إلى رجال ونساء زمننا الحاضر روايات مطبوعة بمنطق “الخبر السار”.
الخبر السار
إن حياة الإنسان ليست مجرّد سرد بارد للأحداث، بل إنها رواية، رواية تنتظر أن تُسرد من خلال اختيار مفتاح تفسيريّ قادر على انتقاء وجمع المعطيات الأكثر أهمّية. إن الواقع، بحدّ ذاته، ليس أحاديّ المعنى. إذ كلّ شيء يتوقّف على كيفيّة النظر إلى هذا الواقع، على “النظّارات” التي نختار أن نستخدمها: فالواقع يبدو مختلفا إذا ما تغيّرت العدسات. من أين ينبغي أن ننطلق كي نقرأ الواقع من خلال “النظّارات” الصحيحة؟
بالنسبة لنا كمسيحيين، إن المنظار المناسب لفكّ رموز الواقع لا بدّ أن يكون الخبر السار، بدءًا من الخبر السارّ بامتياز: “إنجيل يسوع المسيح ابن الله” (مر 1، 1). بهذه الكلمات بدأ مرقس البشير روايته، معلنًا “الخبر السار” الذي له علاقة بيسوع، لكنه لا يقتصر على تقديم المعلومات عن يسوع، إنما الخبر السار هو يسوع نفسه. من خلال قراءة صفحات الإنجيل، نكتشف في الواقع أن عنوان الكتاب يتماشى مع المضمون، خصوصا وأن هذا المضمون هو شخص يسوع نفسه.
إن هذا الخبر السار، الذي هو يسوع نفسه، ليس سارا لأنه خال من الألم بل لأن الألم أيضا معاش في إطار أوسع، وهو جزء لا يتجزّأ من محبّته للآب وللبشريّة. في المسيح، جعل الله نفسه قريبا من كلّ حالة بشريّة، كاشفًا لنا أننا لسنا وحيدين لأن لدينا أبًا لا يمكنه أن ينسى أبناءه أبدا. “لا تخف فإني معك” (أش 43، 5): إنها الكلمة المعزّية لإله يشارك دوما في تاريخ شعبه. في ابنه الحبيب، يتوصّل وعد الله هذا -“إني معك”- إلى تبنّي ضعفنا بالكامل وصولا إلى حدّ الموت كما نموت نحن. فيه يصير الظلام والموت فسحة شركة مع النور والحياة. ففي المكان نفسه الذي عرفت فيه الحياة مرارة الفشل، يوُلد رجاء بات بمتناول الجميع. إنه رجاء لا يخيّب لأن محبّة الله قد سُكبت في قلوبنا (را. روم 5، 5) وأنبتت الحياة الجديدة كما تنمو النبتة من البذرة الميتة. من هذا المنظار، تتحوّل كلّ مأساة جديدة تقع في تاريخ العالم إلى سيناريو لخبر سار محتمل عندما تتمكّن المحبّة من إيجاد سبيلٍ للتقارب وتحريك قلوبٍ قادرة على التأثّر، ووجوهٍ قادرة على عدم الاستسلام، وأيدٍ مستعدّة للبناء.
الثقة في بذار الملكوت
لقد لجأ يسوع إلى الأمثال ليُدخِل تلاميذه والحشود في هذه الذهنية الإنجيلية ويسلّمهم “النظارات” الصحيحة ليقتربوا بواسطتها من منطق المحبّة التي تموت وتنبعث من جديد، وقد شُبه ملكوت الله غالبا، في هذه الأمثلة، بالبذار التي تنشر قوّتها الحيويّة عندما تموت في الأرض (را. مر 4، 1- 34). ليس اللجوء إلى الصور والاستعارة لنقل القوّة المتواضعة للملكوت وسيلةً للتقليص من أهميّته ومن ضرورته الملحّة، لكنّه الشكل الرحوم الذي يترك “فسحةً” من الحرية لمَن يصغي كي يتقبّل هذه القوّة ويوصلها إلى ذاته أيضًا. إنه أيضا السبيل المفضّل للتعبير عن كرامة السرّ الفصحيّ العظيمة، من خلال ترك الصور -أكثر منه من المفاهيم- تنقل الجمال التناقضيّ للحياة الجديدة في المسيح، حيث لا يُبطل الصليب والعداوة خلاص الله بل يحقّقانه، حيث الضعف يقوى على كلّ سلطة بشريّة، وحيث الفشل يصير مقدّمة لأعظم انجاز، انجاز كلّ الأشياء في المحبّة. هكذا في الواقع ينضج ويتعمّق رجاء ملكوت الله: “كرَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض؛ فسَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار، فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي” (مر 4، 26- 27).
إن ملكوت الله حاضر في وسطنا كبذرة محجوبة عن الأنظار السطحيّة والتي تنمو بصمت. من لديه عينان صفّاهما الروح القدس يستطيع أن يراها تنبت ولا يترك أحدا يسلبه فرح الملكوت بسبب الزؤان الحاضر دوما.
آفاق الروح
إن الرجاء المرتكز على الخبر السار الذي هو يسوع، يجعلنا نرفع النظر ويدفعنا للتأمّل به ضمن الإطار الليتورجي لعيد الصعود. وفي وقت يبدو فيه أن الرب يبتعد، تتسع في الواقع آفاق الرجاء. لدى كلّ رجل وكلّ امرأة، في المسيح، الذي يرتقي ببشريتنا إلى السماء، الحرّية التامة في الدخول إلى “القُدْسِ بِدَمِ يسوع، السَبيل الجَديدة والحَيَّة التي فَتَحَها لَنا مِن خِلالِ الحِجاب، أَي جَسَدِه (عب 10، 19- 20). فبواسطة “قوّة الروح القدس” نستطيع أن نكون “شهودا” وناقلين لبشريّة جديدة، مُخلَّصة، “حتى أقاصي الأرض” (را. رسل 1، 7- 8).
إن الثقة ببذار الملكوت وبمنطق الفصح لا يسعها إلّا أن تسبك طريقتنا في التواصل. هذه الثقة التي تجعلنا قادرين على العمل – وبالأشكال المتعدّدة التي يتمّ فيها التواصل اليوم- مقتنعين بإمكانية تمييز الخبر السار، الحاضر في واقع كلّ رواية ووجه كلّ شخص، وإلقاء الضوء عليه.
من يترك الروح القدس يقوده بإيمان يصير قادرا على تمييز ما يجري بين الله والبشريّة في كلّ حدث، مدركا أن الله نفسه، وفي السيناريو المأساوي لعالمنا هذا، يقوم بحبك قصّة الخلاص. والخيط الذي تُحاك به هذه الرواية المقدّسة هو الرجاء ومن يحيكها ليس سوى الرّوح المعزّي. الرجاء هو أكثر الفضائل تواضعا، لأنه يبقى دفينا في طيّات الحياة لكنّه شبيه بالخميرة التي تخمّر العجينة كلّها. نحن نغذّيه قارئين مجدّدا الخبر السار، هذا الإنجيل الذي أعيدت “طباعته” بطبعات عدّة في حياة القدّيسين، رجال ونساء صاروا أيقونات لمحبّة الله. واليوم أيضا، إن الرّوح القدس هو مَن يزرع فينا الرّغبة في الملكوت، من خلال “قنوات” كثيرة حيّة، من خلال الأشخاص الذين يتركون الخبر السار يقودهم وسط مأساة التاريخ، وهم كالمصابيح في عتمة هذا العالم، التي تُنير الطريق وتفتح دروبا جديدة من الثقة والرجاء.
إذاعة الفاتيكان
الوسوم :رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي الـ51 لوسائل التواصل الاجتماعي