بمناسبة زمن الصوم الأربعيني وجّه غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، رسالة حملت عنوان: “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت” (لوقا 19: 9) كتب فيها يسرّنا أن نبدأ مسيرة الصوم الكبير، وهو “زمن مقبول” (2 كور 6: 2)، زمن النعمة والبركة، وقد رتّبت الكنيسة السريانية الأنطاكية في مستهلّه تذكار أعجوبة تحويل يسوع الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، فزرع الرب يسوع بحضوره البهجة والسرور، وأرادها علامةً تدلُّ أنّه قادر على تحويل باطن الإنسان العتيق إلى إنسانٍ جديد.
ونقلاً عن الموقع الإلكتروني لبطريركيّة السريان الكاثوليك تابع مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان يقول إنّ الرب يسوع يريد خلاص الإنسان الخاطئ، فالقدّيسون كانوا يعدّون أنفسهم أكبر الخطأة، لأنّهم يعيشون في حضرة الله وفي اتّحاد دائم معه، وتشعّ أمام تأمّلاتهم قداسة الله التي لا توصف، وكأشعّة خارقة كانت تكشف لهم مكنونات ضعفهم وأخطائهم ونواقصهم. فكانوا يلتمسون رحمة الله ومغفرة خطاياهم بالصلاة والتقشّف وأفعال الإماتة، واللجوء إلى سرّ التوبة، وأعمال المحبّة والرحمة. وكانوا يفعلون ذلك باسمهم وباسم جميع الناس.
تابع بطريرك السريان الكاثوليك يقول في الكتاب المقدّس أحداث كثيرة عن انكشاف ضعف الإنسان وخطاياه في حضرة الله. ومع أشعيا ومع سمعان بطرس، تبرز ميزة مشتركة في الكنيسة، هي الإرسال. فالتوبة ومغفرة الخطايا والمصالحة مع الله والذات، تجعل التائب أهلاً ليحمل رسالةً خاصّةً من الله. إنّ للتوبة مفاعيل تؤدّي بالمؤمن إلى تغيير جذري في مجرى حياته، وهنا تستوقفنا حادثة في الإنجيل المقدّس بحسب لوقا: لقاء يسوع بزكّا العشّار. لم يكن زكّا في حالة صلاة في الهيكل، بل في صلاة داخلية تأمّلية صامتة، هي صمت الحبّ والتوق لرؤية يسوع بتواضعٍ كبيرٍ، فيسوع هو أساس توبته العظيمة وتغيير مجرى حياته. نسي زكّا ذاته ومكانته الإجتماعية وغناه، وتسلَّق جمّيزة ليرى يسوع، ونبت فيه زرع الخلاص، إذ رآه يسوع بعينَي الإله الذي “يريد أنّ الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبِلون” (1 تي 2: 4). نظر يسوع إلى زكّا بعينَي الإنسان وناداه بلطف، ومن هنا العبرة الرائعة أنّه لا يستطيع أحد أن يرى المسيح ويؤمن به ما لم “يصعد الجمّيزة”، أي ما لم يرتفع عن شؤون الأرض والحواس وأسر الذات في العادات الطاغية عليها.فمبادرة زكّا ونتائجها تدعونا لنرتفع عن مستنقع الحياة، بالقلب والروح والفكر، بنيّة تغيير مجرى الحياة. يسوع وحده قادر على إجراء هذا التغيير فينا بقوّة الروح القدس. نتيجة توبة زكّا والتزامه والتعويض عن خطاياه، منحه يسوع الغفران الإلهي، فصالحه مع الله: “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت”، وصالحه مع الجماعة وأعاده إليها: “هذا أيضاً هو ابن لإبراهيم”. لم يعد زكّا، بعد هذا اللقاء الخلاصي، ما كان عليه من قبل، وما كان يعتبره الجمع، بل تبدّلت حياته بنعمة الخلاص.
أضاف البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان يقول في تأمّلات قداسة البابا فرنسيس خلال رياضة الكهنة للعام المنصرم، أشار إلى أنّه حين أوصى الرب يسوع بطرس بالغفران للإخوة سبعين مرّة سبع مرّات، أراد التأكيد أنّه في جهوزية دائمة للمسامحة والغفران، فلا يتعب من التوبة ولا ييأس من غفران خطايا الإنسان، بل الإنسان هو الذي يتعب من التوبة والعودة إلى الله والتحرّر من خطاياه. أما الله فيعيد دائماً الكرّة ويتحيَّن الفرص، ويستعمل كلّ الوسائل والظروف لكي ينعم الخاطئ بنعمة الغفران والمصالحة. ففي سرّ التوبة ينال الخاطئ الغفران عن خطاياه، ويتصالح مع الله والذات والناس ومع الجماعة الكنسية التي ينتمي إليها، وفي سرّ القربان، في القداس، يقدّم ذبيحة التعويض والتكفير، ويرفع صلاة الشكر، ويتناول جسد الرب ودمه للحياة الجديدة، إذ لا يمكن نسيان عطية الله، بل تجب العودةُ إليه لأداء صلاة الشكر.
تابع بطريرك السريان الكاثوليك يقول يتحدّث قداسة البابا فرنسيس عن أهمّية الدعوة إلى التوبة والعودة إلى الرب يسوع، في رسالته بمناسبة الصوم الكبير لهذا العام 2017، والتي جاءت بعنوان “الكلمة هي عطيّة، الآخر هو عطيّة”، فيقول: “يوجّه لنا زمن الصوم دوماً دعوةً قويّةً إلى التوبة: إن المسيحي مدعوّ للعودة إلى الله “بكلّ قلبه”، ولعدم الإكتفاء بحياةٍ سطحيةٍ، وإنّما للنموّ بالصداقة مع الرب. يسوع هو الصديق المُخْلِص الذي لا يتخلّى عنّا أبداً، لأنّه، حتى وإن أخطأنا، فهو ينتظر بصبرٍ عودتَنا إليه، وبهذا الإنتظار يُظهر رغبته بالغفران”. وفي ختام رسالته، يعود قداسة البابا فرنسيس للتأكيد على ضرورة اقتران زمن الصوم بمسيرة توبة حقيقية: “إنَّ الصوم هو الزمن المناسب لنتجدّد في لقائنا بالمسيح الحيّ في كلمته والأسرار والقريب… ليرشدنا الروح القدس لنقوم بمسيرة توبة حقيقية، فنكتشف مجدّداً عطيّة كلمة الله، ونُطَهَّر من الخطيئة التي تعمينا، ونخدم المسيح الحاضر في الإخوة المعوزين”. كم يحتاج عالمنا اليوم إلى التجدّد على كافة الأصعدة وفي كلّ مكان، في العائلات والمجتمعات والأوطان، في السياسة والإقتصاد وفي التعامل بين البشر، في بلدان شرقنا المعذَّب، حيث الحروب والنزاعات والنزوح والإقتلاع من أرض الآباء والأجداد. فلنعش هذا الزمن المقبول كما يجب، يحدونا الرجاء بأنّ المسيح قادر على تجديدنا كي نجدّد كلّ شيء من حولنا، ولنتّكل على نعمته في هذه المسيرة لنعبر معه إلى الفصح وإلى الحياة الجديدة.
وختم البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك رسالته بمناسبة زمن الصوم بالقول إنّنا إذ نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، لنصل جميعاً إلى منياء الخلاص والسلام بفرح قيامته من بين الأموات، نمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الأعزاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية.
إذاعة الفاتيكان
الوسوم :رسالة الصوم للبطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي: "بحر مراحمك"