ܐܓܪܬܐ ܕܥܐܕܐ ܕܡܘܠܕܐ ܐܠܗܝܐ ܒ̱ܝܙ
رسالة عيد الميلاد المجيد 2016
ܒܫܡ ܐܝܬܝܐ ܡܬܘܡܝܐ ܐܠܨܝ ܐܝܬܘܬܐ ܐܚܝܕ ܟܠ
ܐܝܓܢܛܝܘܣ ܝܘܣܦ ܬܠܝܬܝܐ ܕܒܝܬ ܝܘܢܐܢ
ܕܒܪ̈ܚܡܘܗܝ ܕܐܠܗܐ
ܦܛܪܝܪܟܐ ܕܟܘܪܣܝܐ ܫܠܝܚܝܐ ܕܐܢܛܝܘܟܝܐ ܕܣܘܪ̈ܝܝܐ ܩܬܘܠܝܩܝ̈ܐ
باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل
اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بنعمة الله
بطريرك الكرسي الرسولي الأنطاكي للسريان الكاثوليك
إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام
وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل
وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب
اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في لبنان وبلاد الشرق وعالم الإنتشار
نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات:
«ܘܬܶܫܒܽܘܚܬܶܗ ܕܡܳܪܝܳܐ ܐܰܢܗܪܰܬ݀ ܥܠܰܝܗܽܘܢ»
“وأشرق مجدُ الربّ حولهم” (لو 2: 9)
مقدّمة:
مثل كل عام، بمناسبة عيد ميلاد ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد، يسرّنا أن نقدّم أطيب التهاني لكم جميعاً أيّها الإخوة والأبناء الأعزّاء في لبنان وفي بلدان الشرق الأوسط وعالم الإنتشار، بهذا العيد المجيد، عيد إشراقة المجد الإلهي في عالم البشر، عيد الفرح الروحي المميّز، عيد الرجاء بمستقبل ملؤه الحبّ والتسامح. في هذه الأيّام الميلادية المباركة، نعيش الرجاء “فوق كلّ رجاء” بالخلاص الذي تحقّق بولادة الطفل الإلهي الذي أنار المسكونة الرازحة تحت وطأة ظلمة الليل. إننا نبتهل إلى مولود مغارة بيت لحم كي يفيض علينا خيراته وبركاته ونِعَمَه في زمن الميلاد وفي العام الجديد 2017، وطوال مسيرتنا الأرضية، ناشراً أمنه وسلامه في العالم بأسره، وبخاصة في شرقنا المعذَّب.
الميلاد نورٌ من السماء يبدّد الظلمات:
بولادة الطفل الإلهي في مذود بيت لحم، إنقشعت ظلمة الليل، إذ “أشرق مجد الرب” (لو 2: 9) حول رعاةٍ كانوا يحرسون قطعانهم، فظهر لهم الملاك وقال: “لا تخافوا! فها أنا أبشّركم بفرحٍ عظيم يكون للشعب كلّه: اليوم، في مدينة داود، وُلِدَ لكم مخلّصٌ، هو المسيحُ الرب” (لو 2: 10-11). هو الشعاع الإلهي الذي جاء من العُلى إلى العالم الغــارق في الظلام، فأنــاره، ودعــاه ليعيش في نور الحقيقة والمحبّة والعدالة والحرّية، في نور السلام. أسرع الرعاة إلى بيت لحم، فشاهدوا النور المتجسّد، الطفلَ المُضجَع في المذود، محاطاً بيوسف ومريم. ثمّ رجعوا فرحين وممجّدين الله على كلّ ما سمعوا ورأَوا (لو 2: 16-20).
يسوع المسيح هو النور الحقيقي الذي ينير العقول بالحقيقة، والقلوب بالحبّ، والضمائر بصوت الله في أعماق النفس، والإرادات بالحق، ويهدي كلَّ إنسان آتٍ إلى العالم بنور الكلمة والحياة (يو 1: 1، 4، 9). هذا النور المشعّ سيبقى ساطعاً مهما اشتدّت الظلمات في العالم، وما أكثرها: ظلمة الخطيئة والشرّ والكذب، ظلمة الحقد والبُغض والنزاع، ظلمة الحرب والعنف والإرهاب، ظلمة الإستبداد والإستكبار، ظلمة السرقة والرشوة والإحتيال، ظلمة الخطف والتعذيب، ظلمة الألم والمرض، ظلمة الفقر والتهجير. وقد جاء في إنجيل يوحنا، أنّ “النور يشرق في الظلمات، أمّا الظلمات فلم تدركه” (يو1: 5). مهما تعاظمت ظلمات هذا العالم، لا يمكن أن تطفئ نور المسيح في العقل والإرادة والقلب. ففي الميلاد، “الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، وعلى الساكنين في بقاع الظلام أشرق عليهم نور” (أش 9: 2) على حدّ تعبير أشعيا النبي. نور ميلاد الرب يسوع إيمانٌ متّقدٌ ورجاءٌ وطيدٌ ومحبّةٌ عميقة، ولا تستطيع شرور العالم أن تخفي هذا النور أو تطفئه. وكم سمعنا من المسيحيين المضطهَدين أو المُعتدى عليهم، يقولون: “هدموا بيوتنا، وسلبوا أموالنا، لكنّهم لم يستطيعوا أن يسلبوا نور الإيمان من قلوبنا!”.
وخير ما نعبّر به عن يسوع النور تلك الترنيمة المعروفة التي غالباً ما نستهلّ بها مدخل القداس في طقسنا السرياني:
«ܒܢܽܘܗܪܳܟ ܚܳܙܶܝܢܰܢ ܢܽܘܗܪܳܐ ܝܶܫܽܘܥ ܡܠܶܐ ܢܽܘܗܪܳܐ܆ ܕܰܐܢ̱ܬܽ ܗ̱ܘ ܢܽܘܗܪܳܐ ܫܰܪܺܝܪܳܐ ܕܡܰܢܗܰܪ ܠܟܽܠ ܒܶܪ̈ܝܳܢ. ܐܰܢܗܰܪ ܠܰܢ ܒܢܽܘܗܪܳܟ ܓܰܐܝܳܐ܆ ܨܶܡܚܶܗ ܕܰܐܒܳܐ ܫܡܰܝܳܢܳܐ. وترجمتها: بنورك نعاين النور يا يسوع المملوء نوراً، أنت هو النور الحقيقي الذي ينير كلّ البرايا. أنرنا بنورك البهيّ يا ضياء الآب السماوي».
الميلاد بشرى الفرح رغم المعاناة:
“سيروا بنا إلى بيت لحم لنرى الكلمة التي كلّمنا عنها الربّ… وبعد أن رأوا، أخبروا بما قيل لهم عن الطفل… ثمّ رجعوا وهم يسبّحون الله ويهلّلون” (لو 2: 15، 17، 20).
سمع الرعاة البشرى المفرحة بميلاد الرب يسوع، فأسرعوا وسط صمت الليل، بقلوب مفعمة بروح الوداعة والبساطة. فالرسالة هي من الله الذي يعلن الخلاص بوحيٍ منه، لا من عقل الإنسان أو فكره. وقد أعطاهم الملاك “علامة”. فرأوا وعاينوا، وآمنوا فأخبروا بكلّ ما سمعوا. الميلاد هو بشرى الخلاص، نحملها لجميع الناس: “إذهبوا في الأرض كلّها وأعلنوا بشارتي إلى الخلق أجمعين” (مر 16: 15).
كم نحتاج إلى الصمت والهدوء، كما إلى بساطة القلب والفكر، كي نسمع الله الذي يتكلّم. أضحى الرعاة، وقد “أشرق عليهم مجد الربّ” (لو 2: 9)، أوّل من أُودِعوا بشرى الخلاص، وأوّل الشاهدين المتأمّلين لسرّ الكلمة المتأنّس لأجل فداء بني البشر، وأوّل المبشّرين “بالفرح العظيم”، وأوّل المسبّحين لله في ليتورجيّة العهد الجديد.
وليس أجمل من تعبير طقسنا السرياني عن اختلاط تسبحة الملائكة مع تمجيد الرعاة للطفل الإلهي:
«ܚܕܺܝܘ ܒܰܣܒܰܪܬܳܐ ܪ̈ܳܥܰܘܳܬܳܐ ܘܰܓܙܳܪ̈ܰܝܗܽܘܢ܆ ܘܰܐܫܰܪܘ ܫܰܒܰܚܘ ܗܰܝܡܶܢܘ ܘܰܛܥܶܢܘ ܩܽܘܪ̈ܒܳܢܰܝܗܽܘܢ. ܚܒܰܨܘ ܠܰܚܕܳܕ̈ܶܐ ܥܺܝܪ̈ܶܐ ܘܐ̱ܢܳܫ̈ܳܐ ܩܕܳܡ ܝܰܠܽܘܕܳܐ܆ ܚܠܰܛܘ ܡܰܠܰܐܟ̈ܶܐ ܒܪ̈ܳܥܰܘܳܬܳܐ ܘܝܰܗ̱ܒܘ ܬܶܫܒܽܘܚܬܳܐ. وترجمتها: فرح الرعاة وقطعانهم بالبشارة، وصدّقوا ومجّدوا وآمنوا وحملوا قرابينهم. تزاحم النورانيون والبشر أمام المولود، اختلط الملائكة بالرعاة وقدّموا المجد» (من باعوث أي طلبة القديس مار يعقوب السروجي في القومة الثانية من ليل الأحد الذي يلي عيد الميلاد، في كتاب الفنقيث، وهو كتاب صلوات الآحاد والأعياد، الجزء الثاني، صفحة 269).
ونحن، في الميلاد، بالرغم من كلّ ما نعانيه في شرقنا، نسبّح ونهلّل كالرعاة، مواصلين السماع والرؤية ونقل الخبر ورفع آيات التسبيح، من أجل عالمٍ يتخبّط في الظلمات، وقد وافاه “الشارق من العلى” (لو 1: 78).
السلام عطية الميلاد:
في الميلاد، تجلّى مجد الله بمحبّته العالم، إذ “قد أحبّه إلى الغاية” (يو 13: 1)، فأرسل ابنه الوحيد ليخلّص الجنس البشري من خطاياه، ويحرّر العالم من سلطة الشرّ والقهر والظلم والإستبداد. وهكذا يضحي مجدُ الربّ، على ما يقول القديس إيريناوس، “الإنسان الحيّ المستعيد بهاء إنسانيته المتجلّية في إنسانية المسيح الذي فكّر بعقل إنسان، وصنع الخير بإرادة إنسان، وأحبّ بقلب إنسان”، الإنسان المتجدّد دوماً على يد مبدعه!
ومجد الربّ هو السلام الذي ترنّم به الملائكة في الميلاد: “المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر” (لو 2: 14). إنّها ثلاثية مترابطة ومتكاملة أنشدها الملائكة في ليلة ميلاد المسيح الربّ، وهي عطية عظيمة من السماء. ففي الميلاد، نرفع هذه الترنيمة نحو السماء: رجاءً نزرعه في القلوب، وسلاماً نبنيه في العائلة والمجتمع والوطن، وتمجيداً دائماً لله.
أصبح السلام مترادفاً مع اسم يسوع المسيح، “لأنّه يُولَد لنا ولدٌ ونُعطى ابناً، وتكون الرئاسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام” (أشعيا 9: 6). إنه عطية سماوية ثمينة تُمنَح لنا جميعاً، أفراداً وجماعات، لنكون صانعي سلام. ولمّا صار ابن الله إنساناً لكي نصير أبناءً لله، جعل السلامَ طريقاً لهذه البنوّة، كما أكّد في موعظته على الجبل، دستور الحياة المسيحية: “طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعون” (مت 5: 9).
في الرسالة السنوية بمناسبة اليوم العالمي للسلام لعام 2017، بعنوان “اللاعنف نمط سياسة من أجل السلام”، دعا قداسة البابا فرنسيس إلى اعتماد اللاعنف المقرون بالمحبّة وسيلةً ومنهجاً في الحياة، وصولاً إلى تحقيق السلام:
“لنجعل من اللاعنف الفعّال أسلوباً لحياتنا… أرغب في التوقّف عند اللاعنف كأسلوب لسياسة سلام، وأسأل الله أن يساعدنا جميعاً كي نستقي من اللاعنف في أعماق أحاسيسنا وقيمنا الشخصية. ليقُد المحبّة واللاعنف الأسلوب الذي به نُعامل الآخرين في العلاقات الشخصية وفي تلك الإجتماعية والدولية” (الفقرة الأولى من الرسالة).
وأكّد قداسته أنّ “الذي يقبل بشرى يسوع السارّة، يعرف العنف الذي يحمله في داخله، ويسمح لرحمة الله بأن تشفيه (من هذا العنف)، فيصبح هكذا بدوره أداة مصالحة، بحسب دعوة القديس فرنسيس الأسيزي: ليكن السلام الذي تعلنوه بالفم أكثر وفرةً في قلوبكم” (الفقرة الثالثة من الرسالة ذاتها).
الميلاد مانح الرجاء للبشر:
الرجاء قديمٌ قِدَم البشرية العاقلة، بل أقدم منها، فأوّل رجاء عرفه البشر هو الرجاء في الخلاص، حينما وعد الربّ آدم وحواء قائلاً: “إنّ نسل المرأة يسحق رأس الحية” (تك 3: 15). وظلّ هذا الرجاء في قلوب البشر آلاف السنين، وحتى الذين لم ينالوا هذا الرجاء، عاشوا فيه، “لم ينالوا المواعيد، ولكنّهم نظروها من بعيد وصدّقوها” (عب 11: 13).
لقد كان هناك رجاء ليونان النبي وهو في بطن الحوت. هل يكون إنسان في جوف الحوت ويكون له رجاء؟ ولكنّ يونان ركع على ركبتيه وصلّى، وقال للربّ “أعود فأرى هيكل قدسك” (يون 2: 4). كان له رجاء، وقد تحقّق. وكان هناك رجاء للفتية الثلاثة وهم في أتون النار (دا 3)، ولدانيال وهو في جبّ الأسود (دا 6). وهكذا رقد الجميع على الرجاء، إلى أن افتقدهم الرب وأعادهم إلى الفردوس من جديد.
تمّت ذروة الرجاء في تجسُّد ابن الله “عمانوئيل – الله معنا” (مت 1: 23)، الذي وعد الكنيسة بأنّ “أبواب الجحيم (أي قوى الشرّ) لن تقوى عليها” ( مت 16: 18)، “ذاك الذي ضاقت به السماء ولم تستطع أن تحدّه وهو الحالّ فيها، اتّسع له حشا مريم ليتزيّح به” على حدّ تعبير آبائنا السريان في صلاة مساء عيد ميلاد الرب بالجسد: «ܙܥܽܘܪܝܳܐ ܫܡܰܝܳܐ ܘܠܳܐ ܐܳܚܕܳܐ ܠܶܗ ܘܶܐܢ ܫܳܪܶܐ ܒܳܗ̇܆ ܘܰܪܘܺܝܚܳܐ ܠܶܗ ܟܶܢܦܳܗ̇ ܕܡܰܪܝܰܡ ܕܢܶܙܕܰܝܰܚ ܒܳܗ̇» (من باعوث أي طلبة القديس مار يعقوب السروجي في القومة الثانية من مساء يوم عيد ميلاد الرب بالجسد، في كتاب الفنقيث، وهو كتاب صلوات الآحاد والأعياد، الجزء الثاني، صفحة 469).
الرجاء التزامٌ، والإلتزام دليلٌ قاطعٌ على مصداقية الرجاء. وما ينقص الناس بالأكثر، هو الرجاء، والرجاء أن نؤمن أنّ للحياة معنى يتمثّل بغدٍ أفضل، مسلّمين أمرنا بين يدي الله إذ أنّ “نصيبي هو الربّ، قالت نفسي، من أجل ذلك أرجوه” (مراثي ارميا 3: 24). ومار بولس رسول الأمم يؤكّد أهمّية “الرجاء الذي لا يخزي، لأنَّ محبَّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا” (رو 5: 5)، ويتابع: “ولكن إن كنَّا نرجو ما لسنا ننظره فإنَّنَا نتوقَّعه بالصبر” (رو 8: 25). التزامنا، في الألف الثالث للميلاد، أن نحيا الرجاء دون حدود، متّكلين على قوّة الله الذي عنده “كل شيء مستطاع” (مر 10: 27).
فالرجاء هو التزامنا جميعاً ككنيسة، رغم كلّ ما يعانيه أبناؤنا وبناتنا من مِحنٍ ونكبات وحروب واضطهادات، بالإتّكال على الروح القدس الذي يقود الكنيسة إلى كلّ حقٍّ وخيرٍ وجمال. والمؤمن يجد اختباراً لفضيلة الرجاء فيه، حينما يقع في ضيقة أو في تجارب متنوّعة، أو في آلام صعبة، أو في مشاكل يبدو أنّ لا حلول لها، فهو يعرف بالرجاء أنّ الرب لديه حلول كثيرة، وأنّه لا بدّ أن يأتي ليفتقده مهما بدا أمام الناس أنه قد تأخّر.
لذلك نعيش ونعمل “فَرِحين في الرجاء، صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة، مشتركين في احتياجات القديسين، عاكفين على إضافة الغرباء” (رو 12: 12 و13). فنحن لا نعتمد على ذواتنا ولا على وسائط عالمية، إنّما على الله الذي يعمل كلّ خير. نرجو ضارعين إلى المولود الإلهي أن يسود السلام والأمان في كلّ مكان، ويرجع الحبّ إلى قلوب الناس جميعاً، فيرتبطوا به، ويعيشوا به، إذ قال الرب يسوع “بهذا يعرف الناس أنكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعضكم نحو بعض” (يو 13: 35).
صدى الميلاد هذا العام:
يختصر ميلاد الربّ يسوع، قيم التواضع والمحبّة والرجاء، في زمنٍ نحن بأمسّ الحاجة فيه للعودة إلى ذواتنا للصلاة من أجل الرجاء، رجاء السلام في العالم المليء بالصراعات والنزاعات والحروب والخلافات فيما بين مكوّنات بلداننا المشرقية المضطهَدة تحت راياتٍ مختلفةٍ ومتعدّدةٍ، لنعرف السلام في نفوسنا.
إن كان وطننا لبنان ينعم بالسلام رغم كلّ الأزمات التي تحيط به، فذلك بفعل قرار أبنائه برفض التعصّب ونبذ الخلافات التي تهدم ولا تبني. ونحن إذ نبارك لشعبنا ولكلّ اللبنانيين بانتخاب فخامة الرئيس العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، بعد سنتين ونيّف من الفراغ في المركز المسيحي الأوّل والوحيد في العالم العربي بأسره، وإذ نهنّئ بتشكيل الحكومة الجديدة التي سعت لتمثيل غالبية الأطياف، يحق لنا أن نُذَكِّر بأنه قد تمّ تهميش المكوّن السرياني وإقصائه عن المشاركة تحت مسمَّيات غير مقنعة، وبمخالفة لروح وأحكام الدستور اللبناني الذي يرعى العلاقة بين المكوّنات والعائلات اللبنانية. لذا فإننا نناشد القيّمين على شؤون الوطن إلى عدم تكرار هذا المشهد غير المحبَّب، فيما تشخص عيون كلّ المسيحيين في الشرق إلى لبنان كواحة أخيرة للحرّية والتعدّدية، خاصةً لشعبنا السرياني المشرقي.
إنّنا نتضرّع إلى طفل المغارة ليوفّق الحكومة مجتمعةً لإقرار قانونٍ انتخابي جديد عادل يلبّي تطلّعات وآمال اللبنانيين عموماً، وشعبنا السرياني خاصةً، بإستحداث مقعدين نيابيين، أحدهما للسريان الكاثوليك والآخر للسريان الأرثوذكس، انطلاقاً من روحية الوثيقة التاريخية المشتركة الموقَّعة بيننا وبين قداسة أخينا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني، بتاريخ 9/5/2016، بحضور ممثّلين عن كافّة الكتل والأحزاب السياسية في الوطن.
في هذا الزمن المقدس، وفي خضمّ احتفالاتنا بولادة الرب المخلّص الوديع في مذود، تشخص عيوننا إلى سوريا الجريحة بفعل الحروب التي تُساق على أرضها، حيث شُرِّدت العائلات، وقُتِل الأطفال والنساء والشيوخ ودُمِّرت المدن والقرى، وأصبح المواطن السوري يبحث عن مأوىً آمنٍ هرباً من الموت والدمار. إننا نناشد الضمير العالمي والدول صاحبة القرار لإيقاف هذا النزيف المستمرّ منذ حوالي ستّ سنوات، ووقف القتل الممنهج والدمار وحبك الصفقات والمخطّطات على حساب شعبٍ بات مشرّداً في أرضه وعلى أبواب السفارات، ونضاعف التضرّع في زمن الرجاء من أجل ولادة حلٍّ سلمي ينهي العنف والإقتتال، ويجمع أبناء الوطن حول طاولة واحدة، ليتصالحوا مع أنفسهم وفيما بينهم، ويقرّروا العمل لإحلال الأمن ووقف القتال وإعادة بناء سوريا دولةً ديمقراطيةً حرّةً مستقلّة. كما نحثّ المجتمع الدولي على السعي الجادّ والحثيث لرفع العقوبات المفروضة على سوريا ظلماً، لأنها تنال من المواطنين وحدهم في لقمة عيشهم وحياتهم اليومية. كما نناشد الجميع من مراجع دينية وسياسية وإعلامية، أن يقلبوا صفحات الماضي المؤلمة ويتطلّعوا إلى بناء علاقاتٍ إيجابيةٍ وطيدةٍ تجمع بين الشعوب، لتتواكب في مشاريع النهضة من ركام الصراعات وجاهلية الأحقاد.
ولا يسعنا إلا أن نجدّد دون كلل المطالبة بالإفراج عن جميع المخطوفين، من رجال دين ومدنيين وعسكريين، وبخاصة مطراني حلب مار غريغوريوس يوحنّا ابراهيم وبولس اليازجي، والكهنة باولو داللوليو، واسحق محفوض، وميشال كيّال، والعسكريين اللبنانيين المخطوفين. كما نضرع إلى الطفل الإلهي أن يتغمّد جميع الشهداء برحمته الواسعة، ويمنّ على الجرحى بالشفاء العاجل، ويعزّي كلّ مفجوعٍ بفقد عزيز.
وفي هذا العام، نشكر الطفل المخلّص الذي خلّص أبناء شعبنا في العراق من احتلال الإرهابيين لأرضه واستباحتهم مقدّساته، في غمرة المسيرة البطولية التي يقوم بها الجيش العراقي والبشمركه. ولكنّ ما يدمي القلب، ناهيك عن السرقة والتخريب والتدمير، هو الحرق المتعمَّد للكنائس والأديرة، فضلاً عن المنازل والمدارس والمستشفيات والمؤسّسات في البلدات المسيحية المحرَّرة في سهل نينوى. إننا نوكل إلى السلطة السياسية والأمنية في العراق مسؤولية إعادة إعمار قرانا وكنائسنا وأديرتنا، وتوفير كلّ الدعم اللازم لأبناء شعبنا لوقف نزيف هجرتهم إلى الخارج وتثبيتهم في قراهم ومدنهم، فيساهموا مع شركائهم في الوطن في إعادة بناء العراق وطناً يليق بتاريخهم ويناسب حاضرهم ويتألّق في مستقبلهم. لذا نطالب بإنشاء مناطق آمنة يعيش فيها أبناؤنا وبناتنا بالكرامة الإنسانية والحرّية الدينية، وينعمون بالإستقرار والطمأنينة ليشاركوا في إعادة بناء بلدهم.
ولا ننسى أن نستنكر بأشدّ العبارات كلّ أعمال الإرهاب من قتل وتفجير وترويع للناس وبثّ الفوضى والفتن في أماكن وبلدان عديدة، ذاكرين على وجه الخصوص تفجير كنيسة مار بطرس قرب الكاتدرائية المرقسية في القاهرة بمصر، وأعمال العنف التي وقعت مؤخّراً في تركيا والأردن وألمانيا، وأودت بحياة الكثير من الأبرياء، فضلاً عن الجرحى. ونتوجّه بالتعزية الحارّة إلى جميع الذين نُكِبوا بهذه الجرائم النكراء، وفي مقدّمتهم قداسة أخينا البابا تواضروس الثاني بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وكنيسته الشقيقة، وجميع ذوي الشهداء والجرحى.
وتوجّه غبطته بالقلب والصلاة “إلى أبنائنا الذين يكابدون آلام الإقتلاع والنزوح والهجرة، من العراق وسوريا، إلى لبنان والأردن وتركيا، وإلى ما وراء البحار والمحيطات، مؤكّدين لهم تضامننا الأبوي واستعدادنا الدائم لتأمين حاجاتهم ومساعدتهم بكلّ الإمكانات المتاحة”.
كما نتوجّه بشكلٍ خاص إلى العائلات التي تعاني الحزن لفقدان أحد أفرادها، وجميع الذين يغيب عنهم فرح العيد، من فقراء ومعوَزين ومهمَّشين ومستضعَفين، سائلين لهم فيض النعم والبركات والتعزيات السماوية.
ويطيب لنا أن نتقدّم بالتهاني الأبوية بمناسبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد إلى جميع إخوتنا وأبنائنا وبناتنا السريان في لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدّسة والأردن ومصر وتركيا وأوروبا وأميركا وأستراليا. ونحثّهم جميعاً على التمسّك بالإيمان بالرب يسوع، والتعلّق بكنيستهم وأوطانهم والإخلاص لها، حتى يكونوا على الدوام شهوداً لنور الميلاد وسلامه أينما حلّوا.
خاتمة:
إنّنا نتوجّه بالصلاة الحارّة من أجل أن “يشرق حولنا مجد الربّ” (لو2: 9)، في هذا العيد، كما أشرق في أجواء بيت لحم، ليلة ميلاد يسوع المسيح فادينا. ولنسأله أن يؤهّلنا لنحيا في داخلنا السلام الآتي من الله لكي نتمكّن من أن نبنيه في كلّ عائلةٍ ومجتمعٍ ووطن، في هذا الشرق وفي بلدان الإنتشار. ولنسبّح اللهَ ونمجّده في إنساننا المتجدّد بالمسيح وفي كلّ إنسانٍ تتجدّد فيه صورة الله بهيةً. كما أننا نبتهل إلى أمّنا مريم العذراء التي قدّمت للبشرية المعذَّبة، هدية السماء، يسوع الأعجوبة، أن تتشفّع فينا لدى ابنها، ربّنا يسوع المسيح، كي يحلّ في شرقنا السلام الذي طالما تاق إليه. ولنبقَ في ظلّ حمايتها متشدّدين بالرجاء، صامدين في وجه المحنِ والمصاعب، ولنُجاهر ملء الفم والقلب والروح:
ܡܫܝܚܐ ܐܶܬܝܠܶܕ… ܗܠܠܘܝܗ وُلِدَ المسيح! هللويا!
وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
كلّ عام وأنتم بألف خير.
صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت – لبنان
في اليوم الحادي والعشرين من شهر كانون الأوّل سنة 2016،
وهي السنة الثامنة لبطريركيتنا
زينيت