بالأمس رحل المفكر الطليعي رغيد الصلح الذي عرفته منذ مطلع الستينات من القرن الماضي، أخاً عزيزاً، وصديقاً كريماً، ومحاوراً لامعاً ما حضر جلسة إلا وأثراها بالأفكار والأخبار، ولوّنها بالطرائف وطيب الكلام. فقد كان، رحمه الله، مثالاً للرجل الحر الذي يحترم الآخر ويفرض احترامه، بمحبة، على محاوريه لغزارة علمه وتوهج عقله وسمو مقاصده.
لم اسمع منه في حياتي كلمة جارحة، أو عبارة تخدش الذوق العام، إذ اشتهر راحلنا الكبير بلسانه العفيف، وتواضعه الجم، وأخلاقه الرفيعة ومحبته لأهله وإخلاصه لأصحابه وتفانيه لمصلحة بلاده، فكان إذا أطل علت البسمة الوجوه استحساناً وترحيباً، وإذا تكلم أنصت الجميع بانتظار أفكار جديدة استخلصها إثر معاناة، أو معلومات فريدة نقب عنها طويلاً، قبل أن يطرح ذلك كله بمنهجية منطقية تحرك العقل، وأسلوب ساحر يستثير الحوار فتكتمل الجلسة وتطيب، وقد أضفى عليها دفقاً من روحه السمحة وملاحظاته الذكية مصحوبة بالإستدراك والطرائف، وأحياناً بالكشف عن المسكوت عنه، أو المحجوب عليه في عالم السياسة وخزائنها المرصودة.
ما إن عرفته على مقاعد الدراسة في “الجامعة الأميركية في بيروت” حتى أصبح الشأن العام ثالثنا نبحث فيه كلما التقينا، فنستطلع ونستخلص قبل أن نندفع للعمل في مجالات عدة، وخاصة في جمعية الإنعاش القومي التي كان يشرف عليها بالتزام وفعالية. ثم أضحت اللقاءات يومية وغنية يشترك فيها، بالطبع، زملاء كرام من بينهم معن بشور وعماد شبارو ومنصور حريق، حيث تشكلت بيننا رابطة وثيقة لم تستطع الأيام والأهوال تقييدها أو تفكيكها.
وبناء على توجيهاته كنت اغرق في قراءة الكتب، وتعليم العمال، وتقديم المقالات ونشر الأفكار، فالحياة بالنسبة إليه لم تكن يوماً رحلة عابرة أو فرصة سانحة، وإنما ميداناً للعمل والإنتاج والبناء، ومنطلقا للإضافة والعطاء والإبداع.
كانت نظرته العميقة للشأن العام تلفت الأنظار، وترفع من مستوى الحوار، وتدفع العلاقات الإنسانية إلى مسالك جدية وحوارات أسمى. وعندما تركزت جهوده على تحصيل العلم والتعليم الجامعي ونشر الدراسات والبحوث أصبح محط أنظار المثقفين وأهل العلم يرجعون إليه، والى كتبه، لثقافته الواسعة وعقله النير وأسلوبه العلمي.
عاش رغيد ردحاً من الزمن في أوكسفورد – الجامعة والمدينة – مع زوجته كاميليا وإبنته لينا، لكن قلبه والعائلة كان دائماً في لبنان الذي لم ينقطع يوماً عنه أو عن قضاياه ومعاناته، فقد كان التواصل قائماً وحاراً، سواء بالحضور أو بالكلمة أو بالرسالة، وعندما كان يرتاح قليلاً من عناء الكتابة عن لبنان كان ينكب على الكتابة عن القضية العربية التي حرّكت، هي الأخرى، وجدانه وسكنت قلبه وحفزت قلمه حتى اللحظات الأخيرة من حياته الزاخرة بالحب والعطاء.
إن دار الندوة التي تعتز بالدكتور رغيد الصلح مناضلاً شريفاً، وعروبياً صادقاً، وديموقراطياً ملتزما، وكاتباً مجلياً، وسياسيا نبيلاً ساهم في إطلاقها، وأطل على منابرها، وشارك في فعالياتها، تعتبر رحيله المبكر خسارة للبنان والأمة العربية والحياة الثقافية الحرة، التي هي الأساس في صمودنا القومي، والمدخل الرئيس لانطلاقة متجددة لمشروع النهضة العربية الذي أعطاه الراحل الكبير كل حياته.
الوزير السابق بشارة مرهج
النهار