رفقا القديسة التي تحتفل الكنيسة المارونية هذه السنة بيوبيلها المئوي، من سيرتها إستوحى جورج خباز الإنسان الذي يعجز القلم أن يصنّفه بكلمات، إنجيلا أوبراليا دعا للإرتقاء به فوق قشور الأرض، موسيقيين نخبويين من وطن رفقا هم ومن تاريخه، استدلوا على الدروب التي عبرتها حتى القداسة وتأملوا في الصمت الوجداني الذي طالما استمدت منه صوت يسوع، ومن هذا العماد ولدت ألحان مسكوبة في وحي الكلمة، وصدى مفعولها على النفس.
هذه التحفة الروحانية الجامعة تحت لوائها الكلمة الجاذبة، الفاعلة في النفس والموسيقى المنارة على كل عبارة والأصوات الرخيمة المنفردة والجوقية، تجعلنا نعترف بلا خفر أن في هذا الوطن الصغير نخبة من المبدعين صنعوا من إنجيل الألم والفرح آية لبنانية من محاصيل أرضنا المقدسة تضاهي بحسنها ورهافة تأليفها ما صنع من وحي الأناجيل السماوية في زمن الباروك. فاليوبيل المئوي لوفاة رفقا، أعطى بعدا فنيا راقيا، مغسولا من أي ابتذال، بموسيقى معطّرة بالبخور من شربل روحانا ومارسيل خليفة وخالد مزنّر، فيما الأخت مارانا سعد، شريكة رفقا في دعوتها في في دير مار يوسف في جربتا، أعطت من خبز الحانها لاهوتاً، وهي الاختصاصية في الموسيقى المقدسة، وكان لها في هذا العمل الأوبرالي الشاهق غير مشاركة، إن في تلحين الأغاني وإن في قيادة الأوركسترا السمفونية وجوقة القديسة رفقا للموسيقى مؤسستها.
وقبل أن ترتفع الستارة إنطلقت من الأوركسترا موسيقى لكاتبها شربل روحانا تلقيناها بشارة من سفر التكوين. هو هذا الخشوع الذي شيّد أسسا متينة لحياة رفقا. الجوقة بصغارها وكبارها مدربة على مواكبة الحدث، ترويه بكلمات من نور:
“بعيونك يا رفقا” للوقا صقر. أمام هذا الكم من المرنمين، وقفت لينا فرح غاوي بمشلحها الأخضر في شخصية رفقا تهدي نفسها للرهبنة والطاعة. صلاتها أوحت لمارسيل خليفة أمه الغائبة في رفقا الأم “يا رفقا يا سيّدة الصمت والألم والحب،اشرعي نوافذ السماء فرحا لنحتفل بك”.
إلى جانب الخشبة نموذج لضريح رفقا يأتي إليه موكب المتضرّعين ويختفون حتى يبقى الالتفاف هو الأساس حول مراحل حياة القديسة، التي جال جورج خباز في حذافيرها، يرصّع الدعوة حبات لؤلؤ كالدموع، هي، دموع أسى وفرح. لينا فرح غاوي، هذا الصوت الشجي الذي تخاوى عن معرفة أكاديمية بأصول الغناء، أطربت قلوبنا بشدوها من كلمات خباز ولحن روحانا:
“رفقا أنا جيت لعندك بعيونك خبيني”، في أمامية الجوقة فتيات بلباس الثوب حاملات القناديل يسألن هذه الغريبة” إنت مين؟” “أنا بنت جايي إترهب من مطرح بعيد لكفّي مع يسوع”. ويصدح صوت بالليل من ألحان الأخت مارانا ومن صدر الفتاة تعلو النبوءة: “حكاني، وشوشني بقلبي وعطاني الأمان”.
ثمة صوت آخر من حياكة صوت لينا فرح واسمها رفقا فارس، لبست شخصية السائرة على خطى رفقا في هذه المسبحة النورانية من الدعوات، فيستقبلها الكورس منشداً من لحن مارسيل خليفة: أهلا فيك ببيتك الجديد عمذبح الرب نامي بصلاتك وتغطي بالرب…”.
كل من الملحنين وضع نغم وحيه في كل قصيدة، من مارانا وخليفة وروحانا إلى مزنّر الذي أعطى للفتاة لحناً يقول “يا عدرا يا أم الكل إنت عالأرض سما روح القدس فيك حل وبحضنك الله ارتمى”.
وعندما يستكين الغناء وتتقوقع رفقا سيدة الوجع في وحدتها تصلي، يبدأ حوار وجداني بين الألم والفرح، وفي هذه المواجهة نختبر عمق رجل إن صنع مسرحا أضحك الناس وإن لملم جراح البشرية في صدره، كسا كمرشد ضليع بتراجيدية الأرض النفوس المنكسرة رجاء.
النهار / مي منسى