الاول، “الطيّب” الطريف والودود، نال “تسريعا” بابويًا لملفه. والآخر، “المبشر الكبير” الذي جاب الارض كلها من اجل الله، حقّق “رقما قياسيا” في سرعة بت ملفه. بابوان، شخصيتان متميزتان، تاريخان مختلفان. يوحنا الثالث والعشرون ويوحنا بولس الثاني قديسَين معاً، بقرار من البابا فرنسيس، في احتفال تضجّ به ساحة القديس بطرس في الفاتيكان الاحد 27 نيسان 2014، مع توقع مشاركة مئات الآلاف (800 الف على الاقل) وتأكيد 19 رئيس دولة و24 رئيس حكومة و23 وزيرا حضورهم… بما يشكل مجموع 61 وفدا رسمياً.
في تحليل لخبراء فاتيكانيين، اراد فرنسيس عبر “جمع” البابوين، مع انصار كل منهما في الساحة، ان يحقق توازنا بين وجهين مختلفين في الكنيسة، ان يشدد على وحدتها في التنوع، وخصوصا ان لكل من الرجلين معجبين ومنتقدين. هو نفسه من الفئة الاولى: مرارا استشهد بهما، وصلّى ايضا عند قبريهما. ويوم اعلن قرار التقديس المشترك اواخر ايلول 2013، تبخرت نهائيا آمال “المخيّمَين” في تقديس منفصل لرجليهما. كان ترحيب… لكن الانتقادات لم تخف.
ففي واقع الامور، تجاوز تقديس البابا يوحنا الثالث والعشرين، رجل “المجمع الفاتيكاني الثاني”، بهذه السرعة كل التوقعات. اي اعجوبة لم تُنسَب الى “انجيلو غيسيبي رونكالي”، منذ تطويبه عام 2000. اعجوبة واحدة فقط في رصيده، بدلا من اثنتين تلزمهما شروط التقديس. وما اقدم عليه فرنسيس لجهة تجاوز شرط الاعجوبة الثانية للتقديس، امر غير اعتيادي.
“الجميع يعرفون فضائل البابا الراحل وشخصيته. ولا حاجة لشرح دوافع قرار فرنسيس”، قال الناطق باسم الفاتيكان الاب فريديريكو لومباردي. بالنسبة الى فرنسيس، صيت قداسة رونكالي يفرض نفسه، دونما حاجة الى اعجوبة ثانية. اعجاب مطعّم بألفة خاصة. انه “كاهن ريفي شجاع يتميز بحس فكاهة كبير”، قال عنه.
بالفعل، عُرِفَ رونكالي الايطالي، البابا الـ261، ببساطته وقربه من الناس، وخصوصا طرافته. “غالبا ما افيق في الليل، وابدأ التفكير في مشكلة جدية، واقرر انه يجب ان اخبر البابا عنها. عندئذ افيق تماما، واتذكر انني البابا”. حتى انه “جنّن” الحرس السويسري، بتسللاته المتكررة من المقار البابوية. و”مغامراته” تلك رواها اخيرا كبير الخدم في الجناح البابوي في عهده غيدو غيسو امام حشد من الصحافيين.
ايا يكن، فان هذا البابا الذي عمل طويلا ديبلوماسيا، كان “شخصية صافية تتميز بطيبتها الكبيرة”، وفقا للكاردينال جيوفاني راتيستا، “رجل وحدة وسلام”، على قول الكاردينال بول بوبار، بابا اصلاحيا حرّكته ثلاثة امور: تجديد الكنيسة، وحدة المسيحيين، والانفتاح على العالم. معه “لم تعد الكنيسة بعيدة عن الناس”، وفقا للخبير الفاتيكاني جان فرانكو سفيدركوسكي.
ومع ان عهده كان الاقصر في القرن العشرين ( نحو 5 اعوام-1958 الى 1963)، بعد يوحنا بولس الأول (33 يومًا)، فقد شكّل علامة فارقة في تاريخ الكنيسة، بانعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني، بعد 92 عاما على آخر مجمع. فمع انه انتُخِب ليكون “بابا انتقاليا”، لا اكثر، فاجأ رونكالي اترابه الكرادلة بالدعوة الى المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، بما شكّل “حدسا نبويا”، في رأي فرنسيس.
“اريد ان افتح نافذة الكنيسة كي نرى ما يحصل في الخارج ويرى العالم ما يحصل عندنا”، قال رونكالي في خطاب الافتتاح (11 ت1 1962). غير ان ما افتتحه عجز عن اختتامه، لوفاته في 3 حزيران 1963، قبل ان ينهي المجمع اعماله ويرى بنفسه تحديثاته الكنسية المؤثرة. ما تركه في ذاكرة الجميع، “صورة ذراعين مفتوحتين ليغمر العالم اجمع”، قال يوحنا بولس الثاني عنه في احتفال تطويبه (2000).
واذا كانت حبرية رونكالي قصيرة نسبيا، ولم يسافر خلالها مرة، فان عهد كارول فويتيلا، البابا الـ264، كان الاطول في القرن العشرين (نحو 27 عاما)، سافر خلاله الى نحو 127 بلدا، حتى ان فرنسيس وصفه بانه “بولس رسول جديد”. والاكثر من ذلك انه بلغ مراتب القديسين بسرعة قياسية: 9 اعوام فقط بعد وفاته.
اول بابا غير ايطالي من اكثر من 400 عام، الاول من اوروبا الشرقية، يُنسب اليه الفضل في انتصار “حركة التضامن” في بولونيا وسقوط جدار برلين الذي انذر بانهيار الشيوعية. صاحب شخصية كبيرة جذابة، مفكر يتقن لغات عدة، مناضل يُحسَب له حساب… صفات كثيرة اقترنت به، واحداها انه البابا الذي اقدم على ما لم يقدم عليه اسلافه. اطلق “الايام العالمية للشبيبة” من روما، في تقليد لا يزال مستمرا. “معه استعاد الشباب الكاثوليك الثقة”، وفقا للمؤرخ برنار لوكونت.
الى جانب تركه ارثاً كنسياً كبيراً جمع فيه بين المحافظة والحداثة، تمتع بشعبية كبيرة، وفي الوقت عينه كان هناك منتقدون لمواقفه من مواضيع معينة، ولما سموه “تساهله تجاه ملفات فساد اخلاقي ومالي في الكنيسة”. نجا من محاولة اغتيال “باعجوبة”… وبقي السلام هاجسه الآخر. في اسيزي، جمع ممثلي الديانات الـ12 الكبيرة في العالم للصلاة. اعتذر عن “اخطاء ارتكبت” وهو واقف على “اراض ارثوذكسية”. وكان اول بابا يزور الدول الاسكندينافية، “مملكة” الاصلاح البروتستانتي. وفي عهده، تم توقيع اعلان مشترك كاثوليكي-لوثري في اوغسبورغ للتبرئة.
ومع اليهود، طوى “20 قرنا من النزاع”، طالبا من الله الغفران “على التساهل تجاه ما تعرضوا له من اضطهادات ومحرقة”. والى المسلمين ايضا، مد يد الحوار، وزار العديد من الدول الاسلامية. وكان اول بابا يزور جامعا: الجامع الاموي في دمشق.
واذا كان كتب التاريخ بحركات وصفت بانها “نبوية”، فان “المبشر الكبير”، على قول فرنسيس، كان ايضا “رجل صلاة”، خصوصا في المرض الذي بدأ يفتك به من التسعينات. “في لحظاته الاخيرة، عاد الى ما كان عليه دائما، رجل صلاة”، كتب سكرتيره الخاص ستانيسلاس دزيفيتز. وبتعابير ابسط لفرنسيس، “انه كبير”.
هالة حمصي / النهار