تمّوز في لبنان، تحلو عناقيد العنب وتطيب، وتنقد العصافير آخر حبات الكرز والمشمش المنسيّة على الأغصان. تمّوز في لبنان، للمهرجانات مذاق السفر، حيث الرحيل على جناح صوت ونغم أوركسترا تأشيرة إلى عالم نشتاقه، بعيداً عن واقع حياتنا. الليلة الأولى لمهرجانات زوق مكايل، كان لموزار العبقري، الساحر، أن يستهلّها بـ”عرس الفيغارو”، كمقدّمة للعرس المهرجاني.
هذا العرس المهرجاني هفّ إليه الآلاف، يستمدون من برنامج، وضع تحت راية الأوبرا، شعوراً موحّداً، لا جدل فيه، وطناً حاملا رسالة كونية منذ الأزل، وعليها ينبغي أن نكون.
زوق مكايل بلدة الياس أبو شبكة كانت بحاجة إلى حالم، يجعل من هذه الرسالة الكونية، نموذجاً لوطن عمل على إنمائه وتطويره على مساحة بلدته الزوقية، فصارت جنّة تنسجم فيها الطبيعة الخضراء مع الثقافة والفنون. نهاد نوفل إبن زوق مكايل، لم يكن رجل قانون ورئيس بلدية مؤتمناً على شؤون الناس الذين انتخبوه على دورات عدة وحسب، فللمثقف أحلامه ومشاريعه الملتصقة بجذوره الزوقية: صيانة التراث، بيت المحترف، ترميم بيت الشاعر الياس أبو شبكة وجعله متحفاً للذاكرة، تأسيس مكتبة تنهض بالفكر والروح، ملعب للرياضة، وما لم يخطر في البال، وتحقّق، المسرح الذي شيّده بين الأشجار، معلّقا بين السماء والأرض، ليغدو مهرجاناً تمّوزياً يستضيف النخبة من الفنانين العالميين.
ثلاثة أصوات، مرصود كل منها، لإحياء شخصية من شخصيات الأوبرا ويعيش قدرها التراجيدي أو الكوميدي، حسبما يفرضه الدور. ففي ليلة الزوق المكالية، تذوّقنا من التينور جوزف كلليجا أدوار الحب الرومنطيقي، ومن الباريتون براين ترفل ذلك التنقل المدهش بين الدراما والفكاهة، وتبقى السوبرانو مونيكا يونس من أهل البيت، تعود مع كل مهرجان لتؤنس بصوتها الأنثوي أقدار نساء الأوبرا.
ثمة خيوط خفيّة تربط بين المغني والأوركسترا، يمسك طرفه القائد بمعرفته الكليّة للموسيقى والدور المغنّى، ما يجعل من وقفته المتيقّظة لكل آلة ونبرة صوت، تفاعلاً إستراتيجياً، تتأنسن في كيميائيته الآلة، لتغدو من أنفاس ناياتي أو من قوس كمنجاتي محلولاً يذوب ذوباناً في أوتار المغنّي. يا لهذه المعجزة التي تكرّرت في كل فقرة مختارة لهذا البرنامج التمّوزي الغني بمذاقاته وألوانه.
التناقضات الرائعة التي من جبلتها تكوّن قدر برايان ترفل، الأوبرالي، رست في نفوس الناس حبّا وتقديرا لفنان تواصل معهم بمقاديره السحرية في أن يكون معاً تراجيدياً وكوميدياً، فكاهياً وجدّياً. فكيف لنا أن نتيه عن صوت جهوري حيناً يزأر كأسد جريح، في أدائه فقرة “رحماك حباً” من أوبرا ماكبث لفردي، وحينا آخر ينتقل إلى أوبرا بوف “سندريون” لروسيني.
كما هو، كذلك التينور جوزف كلليجا، المتعالي بأحاسيسه إلى أعلى المفردات التقنية، فيتجلى الصوت المنحوت للحب في أدوار لامعة ولا سيما في رائعة غوتيه “آلام فرتر”. ففي فقرة “لماذا عساي أستيقظ”، كأن جرحاً نزف من أعماق موسيقى ماسنيه، يتلقّاها التينور المبدع بتمزّقاتها وأوجاعها.
البرنامج الغني، توزّع على الأصوات الثلاثة، منفردة ومجتمعة. لمونيكا يونس السوبرانو، غير دور، تنقّلت بها بين دونيزيتي وبوتشيني من أوبرا “لا بوهيم” وغونو من أوبرا “روميو وجولييت” و”سامر
تايم” من أوبرا “بورغي وبيس”، حتى إذا التهب الشوق لدى “الأرملة الطروب” أوبرا ليهار، وصل إليها الباريتون في الوقت المناسب، مغازلاً، متمادياً باليد كما بالغناء.
نعود لنسمعه مع التينور القدير جوزف كلليجا في “ديو” من أوبرا فاوست لغونو، يؤدي دور مفيستو الشيطان مجرّباً فاوست ليبيعه روحه مقابل أن يمنحه السعادة والمعرفة في كل شيء. نجمان لامعان في أدائهما المنفرد كما في لقائهما معاً، تنجلي من حولهما بشاعة الدنيا، فنغرف في فضائل أدائهما غذاء للروح والمتعة السمعية.
معاً ايضاً في اوبرا بيزيه “صيّادو اللؤلؤ” في آريا “في قعر معبد مكرّس”. يتشاكسان، يترافقان كصديقين قديمين، يجمع بينهما الغناء الراقي الذي لا يتأكله الصدأ. إلى أن تنضم مونيكا إليهما وكلٌّ بخامة صوت يدور النقاش، حادا، ظريفا، يتلاعبون به بالفكاهة والتصادم حول عبارة “كل شيء قادر عليه”.
النهار